الخميس، 23 أكتوبر 2014

جمرج.....قصه



(قصــه)



رنين هاتف المنزل في الصباح المبكر، ليس بالأمر المعتاد، نذير شؤم دائما، من سيتصل بي على هاتف المنزل في مثل هذا الصباح المبكر؟ من يعرف أصلا رقم هاتف المنزل؟ نذير شؤم حقيقي، ارتبط عندي بإبلاغي أنباء المصائب العائلية، قريب نقل للمستشفى في حالة خطره، أو قريب وافته المنية،قررت تجاهله والعودة للنوم، لكنه أستمر في الإلحاح، استجمعت شجاعتي ونهضت لتلقي النبأ المشؤوم في هذا الصباح الذي لا يبدو مبشرا أبدا.
  • ألو، أيوه
صوت خروشه على الناحية الأخرى وخلفية صوت شارع
  • ألو، ايوه، مين؟
  • ألو، ايوه ، أستاذ ياسر معايا؟ مش كده؟، صباح الخير
صوت رجالي نحيل متحشرج لا اعرفه، طريقة الحديث الرسمية وضعت جانبا احتمال انه قريب يتصل ليبلغني عن مصيبة حلت بقريب أخر، وصباح الخير المعتذرة المتلعثمة لغت أحتمالية الاتصال من جهة رسميه
  • أيوه،أنا ياسر، مين حضرتك؟
  • سعال ، حضرتك أكيد مش فاكرني، احنا ما اتقابلناش من سنين طويله للأسف، بس عندي أمل تفتكرني، كان ليا شرف أني أزورك في مرسمك في العجمي زمان، وسهرنا تقرا لي مسودة عمل كنت بتكتب فيه، كنت انأ وعاطف الله يرحمه، افتكرتني حضرتك؟
من ركام الملفات القدمية المنسية بقعر ذاكرتي قفز وجه أسمر نحيل تغطي نصفه العلوي نظارة سميكة الزجاج، ونصفه السفلي شارب يتدلى مسترخيا تصل ذؤابتاه لطرف الذقن المستدقة المدببة، سعيد عثمان
  • أيوه أنا افتكرتك...أنت...
قاطعني بصوت مذعور: أرجوك ما تنطقش أسمي ع التليفون، كفاية انك افتكرتني، أنا مش حأقدر أطول في الكلام، ممكن نتقابل؟
تعجبت من خوفه من ذكر اسمه، لكن على ما أذكر كان سعيد عثمان شخصا غريب الأطوار، لكن بطريقة محببة ظريفه، ولعل السنوات الطويلة قد زادت أطواره غرابه
  • قوي، قوي ، ممكن نتقابل النهارده بالليل، نشوف نتقابل فين؟
  • الحقيقة أنا أفضل نتقابل كمان نص ساعه
امسكت بالموبايل الموضوع على دولاب التحف إلى جانب الهاتف الأرضي، ضغطت على زر تشغيله ونظرت للساعة
انت عارف الساعة كام دلوقتي؟ الساعة سته ونص، سته ونص الصبح
  • أيوه، أنا عارف، وأسف جدا على أيقاظك مبكرا هكذا، اعرف انك مخلوق ليلي تحب السهر وتستيقظ متأخرا، لكن أرجوك الموضوع مهم جدا ولا يحتمل التأجيل
  • أيوه، بس أنا محتاج اكتر من نص ساعه عشان استعد للخروج
  • أرجوك، السرعة مهمه قوي، مافيش وقت،
تحول صوت لما يشبه الفحيح: المسألة مسألة حياه أو موت، أرحوك
نصف ساعه فقط؟ اللعنة، على أن أفطر وأشرب قهوتي واستخدم الحمام وارتدي ملابسي في نصف ساعه؟! أنا عادة احتاج ساعتين ما بين الاستيقاظ والخروج من المنزل، ساعتين على الأقل، لكن فضولي تغلب أكتسح كل شيء أخر
  • ماشي ، كمان نص ساعه، فين؟
  • محطة مصر، أمام السنترال، نصف ساعه بالضبط، أرجوك لا تتأخر.
  • طيب خد نمرة موبايلي وهات نمرة موبايلك عشان نسهل اللقاء
  • الحقيقة أنا مامعييش موبايل، ما بأشيلهوش من زمان.
  • ماشي، حأقابلك
سخيفة هي الصباحات التي تبدأ هكذا، أضع براد الشاي على النار، وارتدي ملابس بينما تغلي المياه، اشرب الشاي بالحليب مع السيجارة الأولى في المطبخ بينما أصنع القهوة، وليعترض قولوني كيف شاء، ألقيت نظرة سريعه على زوجتي وطفلي النائمين بعمق، فتحت باب الشقة وخرجت.

ميدان محطة مصر الذي لم يستيقظ تماما بعد، وهو الذي لا ينام تماما أبدا، سيارات النقل بالنفر المتجه للقاهره تقف ناعسه كسائقيها الذين ينادون ( مصر ، مصرن نفرين مصر) بينما عرباتهم تقريبا ما عدا أنفار قليلة يسافرون القاهرة في هذا الصباح المبكر، انتبهت إلى أن اليوم هو الجمعة، لذلك تبدو التو رمايات خاوية من زحام الطلاب، كل شيء هادى ء ونصف ناعس مثلي، عبرت حديقة المحطة، مررت وسط (ميكروبا صات) العامريه الخاوية، عبرت شارع الخديوي الذي بدأ يمتلأ بالذاهبين إلى (سوق الطيور) الأسبوعي الذي ينعقد بجانب سور (الدونبسكو) كل جمعه، يحملون أسبتة العصافير والحمام، بضع مراهقين مريبين المظهر يجرون كلابا ضخمة مختلطة السلالة ليعرضوها للبيع في السوق، وقفت أمام باب السنترال، نظرت لساعة الموبايل : السابعة وخمس دقائق، لم أتأخر، إذا أين هو سعيد عثمان؟
ما زال الصباح في بدايته، لكن شمس أغسطس لا رحمة لديها ولا شفقه، ولا شبر ظل أمام مبنى نتجالسن يحميني منها، بعد ثلث ساعه كنت قد أطفأت سيجارتي الثالثة وأحسست بالعرق يتصبب عبر جسمي كله، بينما قولوني يصرخ غاضبا لحرمانه من راحته الضباحية الإجبارية، ألقيت السيجارة بغضب وبصوت خافت لعنت سعيد عثمان ويوم عرفته، ولعنت سذاجة إنني وافقت على لقائه في هذه الساعة السخيفة، أخذت طريقي عائدا للبيت، وبينما أعبر الشارع العريض ما بين السنترال وحديقة الشهداء حاذرا من (الميكروباصات) و(التونايات) و(الاتوبيسات) التي تنطلق عبره بجنون الابتهاج بخواء الطريق، أحسست بيد باردة تمسك ذراعي العرقة بحركة متسلله، جفلت والتفت لجانبي كان الممسك بي يرتدي (سويت شيرت) بقلنسوة رافعا إياها مغطيا بها وجهه، الغريب أن أول ما خطر ببالي :لماذا يرتدي هذا المجنون ملابس ثقيلة في هذا الصباح الأغسطسي الحار؟ لا أراديا سحبت ذراعي وأنا أقفز بعيد عنه، لكن يده بقيت قابضة على كوعي بإصرار، رفع وجهه نحوي قائلا: صباح الخير يا أستاذ ياسر

كان سعيد عثمان.

الوجه النحيل أزداد نحولا وكسته صفرة داكنه، النظارة زاد سمك عدساتها، والشارب المتدلي أزداد تدليلا على الذقن المدببة التي يغطيها شعر خشن متناثر، لكنه هو سعيد عثمان كما أتذكره منذ أكثر من سبعة عشرة عاما، كان يبدو عجوزا جدا رغم انه يصغرني ببضع سنوات

أهلا يا سعيد، أزيك؟ عاش من شافك؟ اـاخرت عليا
معلش، أنا أسف، تعالى نتحرك من هنا.
صوت كان يبدو متوترا ومرتعشا، شبك ذراع بذراعي ودار عائدا نحو مبنى السنترال، عبر من جانبه متجها نحو شارع كينج عثمان، لم يقل كلمة واحدة طوال الطريق، كان يسير بسرعة ويتلفت حوله بتوتر
رايحين فين؟
حنقعد في حته هنا قريب
قبل أن نصل ل(كبده الفلاح) أنحرف يسارا، المقهى الصغير الذي يفرش طاولاته في شارع نصف مسدود كان قد أستيقظ للتو، وبدأ القهوجي في توصيل (الطلبات السوقي) للمحلات المحيطة به، صبي نحيل كان يقف مهويا على الفحم الذي لم يشتعل بعد مضيفا إليه حفنا سوداء من جوال نصف ممتلئ، جلسنا على طاولة إلى جانب الحائط، جلس سعيد منحنيا واضعا يده على يسار صدره وهو يلهث في إجهاد من ركض ماراثونا طويلا.
اللعنة، هل أتصل بي مبكرا هذا الصباح الملعون لأكون شاهدا على أصابته بأزمة قلبيه؟
هل أنت بخير يا سعيد؟
ألتفت نحوي واضعا أصابعه النحيلة على الطاولة التي بيننا، كان ما زال يلهث بشكل مؤلم، لاحت على وجهه أبتسامة امتنان باهتة: أعتذر عن إزعاجك مبكرا، وأعتذر عن التأخر في الميعاد، الحقيقة إنني حضرت في الموعد تماما، لكنني بقيت بعيد لأتأكد أن أحدا لم يتبعك وأننا لسنا مراقبين، كانت كلماته تزاحم اللهاث وهي تخرج من فمه الذي لاحظت انه يفتقد للعديد من الأسنان
  • يتبعنا؟!! مراقبين؟!! عن من تتحدث؟ هل تتابعك الشرطة يا سعيد؟؟
  • ليست الشرطة، امنحني دقائق التقط انقاسي وسأحكي لك كل شيء
أشرت للقهوجي الذي لم يبدو متحمسا لخدمة زبونين مبكرين، حتى لو كان صباحه خاملا وأغلب المحلات والورش لن تفتح إلا بعد صلاة الظهر، طلبت فهوة ساده وحجر معسل، سعيد طلب فهوة كراميللا، وبدا على شفتيه شبح أبتسامه: أتذكر كيف كنت تسخر من فرط السكر بقهوتي؟ وتقول أن السكر إهانة للبن؟ ما زلت تشربها ساده؟
فهوة؟!! عن أي فهوة تتحدث يا سعيد؟ ما موضوع المراقبة؟ من يراقبك؟ ولماذا تبدو خائفا مرتبكا لهذه الدرجة؟
أي مصيبة ارتكبت يا سعيد؟ أنت هربان من الحكومة؟
أنكمش سعيد في كرسيه، سحب طرف القلنسوة ليخفي جانب وجهه
أولا ممكن رجاء؟ لو تكرمت افصل بطارية الموبايل، انت عارف انه ممكن يستخدم كجهاز للتنصت، أرجوك، تحملني، معلش.
كان الضيق قد بلغ بي مداه، وتقلصات قولوني وصلت لمرحلة الحرب الأهلية المعوية، لكن فضولي سيطر مرة أخرى، ونظرة الرجاء في عينيه المجللتين بسواد عميق دفعتني لأخراج الموبايل من جيبي وفصل بطاريته.
ها هو يا سعيد، فصلت البطارية، ماذا عندك؟
أتى القهوجي بالطلبات، وضعت المبسم بين شفتي وأخذت أسحب الأنفاس الأولى من الشيشة، كان لها تأثير مهدى يشبه (التنميل) على عقلي، أخرج سعيد من جيب (السويت شيرت) علبة سجائر صينيه مدعوكة، أخرج سيجارة منحنيه وأشعلها وسحب أنفاسا متتالية بشراهة وهو يجترع رشفات متلهفة من كوب القهوة

حسنا يا سعيد، ما الموضوع؟ من يطاردك؟ ممن تخاف؟ الحكومة؟ المخابرات؟
وضع كوب القهوة وقرب وجهه مني وقال وهو يلعق شفتيه اليابستين بصوت كالفحيح : أنا اهرب من( جمرج)
ألتفت له لأتأكد مما نطق به، كانت عيناه غائرتين في السواد ترتعشان بالرعب، بينما وجهه يخيم عليه شحوب الموتى.
أي حماقه؟!! أرتفع الدم لرأسي
الجمرك يا سعيد؟ هربان من الجمرك؟ أيه الاشتغاله دي؟!! حد بيخاف من الجمرك؟؟!!
أطبق كفيه المعروقتين على ذراعي المستند على الطاولة
ليس الجمرك يا أستاذ ياسر، جمرج ، جيم ميم راء جيم، حاجه تانيه خالص، شيء لم تسمع عنه بحياتك، وغالبا لم تتخيل وجوده، أنظر....
مد يده في جيب سرواله وهو يتلفت حوله بقلق، اخرج قطعة ورق صغيرة مدعوكه، وبسطها بيننا، كانت تبدو مقتطعة من ركن ورقة أكبر، تحتوي رسما لكتاب مفتوح فوقه قلما حبر يتماس سنيهما نحو الأعلى صانعين مثلثا ناقص ضلعا، وجملة غريبة مكتوبة فوقهما قرأتها بصعوبة ( هي اورلا نمز هنا)، كان ينظر إلى بنظرة نشوة ورعب من يشارك شخصا للمرة الأولى في سر رهيب.
هذا هو شعارهم، هذه الورقة مقتطعة من احد وثائقهم الأصلية، هل رأيت هذا الشعار من قبل؟
الحقيقة ﻷ، وهذه الجملة، (هي اورلا نمز هنا) ما معناها؟ وبأي لغه؟ فارسي؟
أطبقت أصابعه على الورقة وأعادها لجيبه بحرص
أستمع إلى فسأحكي الكثير ولا وقت لدي، كل دقيقة أقضيها معك أتعرض لخطر مميت، أنا مطارد منذ عشر سنوان، عشر سنوات، اجمع الأدلة والضم القرائن، أتحسس الإشارات والعلامات، أتسقط الكلمات وأتصيد هفوات الألسن والأقلام وما أندرها، عشر سنوات والصورة تتضح أمامي يوما بعد يوم، والقصة تكتمل أمامي مع كل دليل جديد، رمى سيجارته المنتهية، واشعل سيجارة أخري، كانت أصابعه ترتعش بوضوح، ويعتري جبينه انقباضات متتالية كأنما يعاني من نوبات الم متكرره
سأبدأ معك من البداية، هل تذكر سلاسل الروايات التي كان يكتبها نبيل فاروق منذ منتصف الثمانينيات؟ تلك الروايات العديدة السخيفة الحبكة التافهة اللغة؟ رجل المستحيل وأشباهها؟
نعم أذكرها طبعا وإن لم اكن من قرائها في صغري
ألم يخطر على بالك أبدا من أين يأتي كل هذا الطوفان من الغثاثة؟ من الذي يدعمها وينشرها ويعمل على تسييدها العقل الجمعي لجيل كامل من اليافعين؟ هي وروايات عبير ؟ألم تتساءل أبدا من وقف خلف احمد خالد توفيق ؟ ولماذا تتم (بروزته) كمفكر وعراب لجيل كامل؟ من الذي انتج أسطورة الأسواني ودفع برواياته الركيكة لمقدمة الأبداع الروائي؟ ليعلنوه فيلسوفا ومفكرا، ثم يسقطوه ويأتون بدلا منه بصاحب رواية (فركيكو)؟
بلع ريقه مزدردا إياه بأخر ما تبقى من كوب القهوة، صمت بينما كان القهوجي يغير حجر الشيشة، وأشعل سيجارة أخري من ولعة السيجارة السابقة.
أسمح لي حتى أن أعود لزمن أبعد، لماذا اعتزل عادل كامل كتابة الرواية فجأة؟لماذا مات أمل دنقل بالسرطان؟ من أصاب نجيب سرور بالجنون حتى مات؟ كيف أصاب محمد حافظ رجب بالمرض النفسي وتوقف عن الكتابة؟من قتل يوسف السباعي ولماذا؟وأي خبل أصاب علي سالم وحوله لمطبع صهيوني وقضى على مكانته ككاتب مسرحي؟
هل لديك إجابات؟
هززت رأسي ب.. لا، لم ارد التحدث ، كان يتكلم بحماس ولهاث، بدا مستلبا كأنما روحا تتلبسه، وهشا حتى خفت لو انني نطقت أن يتحطم أمامي كتمثال مشروخ من الخزف

أكتر من كده، من وراء كل تلك المكتبات الفاخرة الديكور التي ظهرت مؤخرا برءوس أموال بالملايين؟لماذا تدعم شركة رأسمالية عملاقه دار نشر معينه وتضخ في عروقها المليارات؟ ذلك اليساري الطويل النحيل بدار نشره ذات الاسم الفرعوني، من خلفه؟ من أتى بالتمويل؟ لماذا هي تتخصص في أصدار نوع محدد من الادب؟ جائزة البوكر العربيه ، من خلفها؟ لماذا ظهرت؟ وأي هدف من ورائها؟ صديقك الأديب النوبي، حين كان يكتب المسرح لم يهتم به أحد، وحين غير بوصلته الإبداعية انهالت عليه الجوائز والمنح، لماذا؟

كان لهائه قد وصل لحد أن صوته تحول لفحيح هامس، قطع تدفقه نوبة سعال عنيفه، مسح جبهته العرقة بكمه، أشعل سيجارة جديده، ورفع في وجهي أصبعه: هل سألت نفسك كل تلك الأسئلة؟

كنت غارقا في محاولة فهم ما يحاول الوصول إليه، كانت تساؤلات كتلك تخطر على بالي من وقت لأخر، لكنني لم أعرها كثير أنتباه، ولم أضعها كلها أمامي لأنني ببساطه لا أجد ما يربط بينها، لكن الأن، وهو يعرضها، بدأت أشعر بشعور غامض غير مريح، كأنك بغرفة مظلمة، تشعر بوجود شخص في الغرفة، لكنك لا تراه ولا تسمعه، فقط تشعر به، فترهف كل حواسك محاولا أن تتلمس أي أشارة لوجود، أو دليل على أن شخصا موجودا فعلا.
لم ينتظر إجابتي، ولم اكن مستعدا لتقديم أجابه، كنت أريد أن أرى الهدف مما يتحدث عنه، الحقيقة، بدا الموضوع مسليا ومثيرا للاهتمام
أسمعني يا أستاذ ياسر، الحقيقة أننا لم نكن مقطوعي الصلة طوال السنوات الماضية، رغم حياة التشرد والاختفاء التي عشتها طوال تلك السنوات، ومحاولاتي الحثيثة بلا طائل للخروج من مصر هربا بحياتي إلا أنني كنت أتابع أخبارك، فلا أنسي انك أول من شجعني على نشر عملي الأول، ولولا نشره ما كنت عرفت ما اعرفه الآن، وقعت على مدونتك بالصدفة في 2007 وكنت أتابعها دائما، بحثت عنك على الفايس بوك وكنت أتابع كتاباتك،منذ أسابيع كتبت أستايتوس على الفايس تتساءل فيه متى سمعنا اخر مرة عن شخص كتب مسرحيه أو نشر مسرحيه؟ ولماذا توقف الأدباء عن كتابة المسرحيات؟ أدركت وقتها انك ربما تشعر بما اشعر به، وإن لم تدرك أبعاده، هل تذكر فيلم (ماتريكس)؟ اعلم انك مغرم بهذا الفيلم، كان (نيو) يشعر بوجود الماتريكس، يشعر بأن بالعالم خطب ما وإن لم يعلم ما هو، لذلك قررت الاتصال بك، قررت أن أشاركك الأمانة التي احملها، خوفا من أن يستطيعون الوصول إلى وتضيع الحقيقة التي أعرفها مرة أخرى.
ابتسمت وأنا أتذكر مشهد الفيلم، إذا انت (مورفيوس) يا سعيد يا عثمان؟ وستعرض علي الاختيار ما بين الحبتين الزرقاء والحمراء؟: فاكر طبعا يا سعيد، كمل يا مورفيوس، وابتسمت مشجعا
أنحنى على الطاولة حتى كادت ذقنه تلامس المفرش المتسخ الكالح باسطا يديه أمامه متحفزا كأنما على وشك القفز:
ما اعرفه انه في وقت ما من أواخر الثلاثينيات أجتمع نفر من الكتاب الشباب الجدد في منزل محمد حسين هيكل، مؤلف رواية زينب، كان اجتماعا خاصا جدا، وشبه سري، لم يذكره أيا منهم أبدا طوال تاريخهم، رغم أن كلهم أصبحوا أعلاما أدبية مشهورة فيما سيلي ذلك من سنوات، كان اجتماعا حصريا مغلقا، بين مجموعة من الأدباء الشبان كما سبق وذكرت، كان ما يجمع بينهم جميعا أنهم يكتبون الرواية، ويحاولون أن يؤسسوا لهذا الفن الأدبي الجديد وقتها موطىء قدم في مصر والمنطقة العربية ككل، في وقت كان اساطين الأدب شعراء في مجملهم، وكان الفن الأدبي الأكثر سيطرة شعبيا هو المسرح، في ذلك الاجتماع السري أسسوا ما أسموه وقتها : أتحاد الكتاب للترقي بالرواية، وحددوا أهدافها في نشر فن الرواية وتدعيمه وجوده، وان يقصر أعضائها أنتاجهم على الرواية فقط، فلا يكتبون الشعر او المسرح، وإن كان ولابد فلا يتجاوزون القصة القصيرة بأعتبارها بنتا للرواية، وان يتخذوا كافة الطرق والوسائل لتدعيم سيطرة الرواية على الأدب العربي دون منازع، وسيطرة الروائيين على العقل العربي دون منافس.
أشعل سيجارة وقال مستطردا: أعلم انك ترفض مفهوم (العربي) و(العروبة) وانا شخصيا لا أراه ذو قيمه، قصدت عقل المتحدثين والقارئين بالعربية طبعا
هززت رأسي موافقا له، لم أجد سببا لقطع سرده، كنت مشغولا أولا بالسيطرة على الام تقلصات قولوني المتمرد- عليه اللعنه- وثانيا على هضم إثارة القصة التي يحكيها.
طلب كوبا اخر من القهوة (الكراميلا) وبقي صامتا حتى يأتيه القهوجي بها لكي لا يقطع حديثه، أخذ رشفه كبيرة من القهوه، ولعق شفتيه مرطبا إياهما قبل أن يكمل حديثه:
أول من خرج على عهود جماعتهم كان عادل كامل فبعد ان كتب روايتي ملك من شعاع ومليم الأكبر، خان العهد وكتب مسرحية( ويك عنتر)، اعتبروه خائنا، هددوه بتلفيق فضائح أخلاقيه، بل وهددوه بالقتل لو لن يعود عن كتابة المسرح، خاف الرجل فأثر هجر الأدب كله واعتزل، كان أول ضحاياهم وأنتصاراتهم، بقى الاتحاد يعمل بهدوء في تدعيم سيطرة الرواية على الأدب المكتوب بالعربية، وينتشر وسط المثقفين والمتعلمين، ويرسخ وجوده وسط كل قطاعات المجتمع، إلا ان وجودهم شهد نقلة كبيره بعد يوليو 52، خاصة وان احد أعضائهم من الجيل الثاني كان أحد الضباط المرموقين المقربين من الضباط الأحرار وإن لم يكن منهم، تخيل أعضاء اتحاد الكتاب للترقي للرواية أن الزمن زمنهم بلا منازع، نظام جديد يمكنهم ان يصولوا تحت ظله ويجولوا ويعلنوا سيطرة الرواية بلا منازع، فرموا بثقلهم خلف الظباط الشبان واعلنوا دعمهم غير المشروط لانقلابهم، إلا أن الزمن لم يكن زمنهم، فقد أصابتهم الصدمة أعتراف عبد الناصر بتأثير رواية عودة الروح عليه وهم من كانوا يعدون توفيق الحكيم مسرحيا، ولم يثقوا أبدا في روائيته، وصياغة يوسف إدريس لأحد كتب السادات وهو أديب أخز كان محسوبا على المسرحيين، كان زمن المسرحية والشعر، ارعبهم ألفريد فرج، وأصابهم نعمان عاشور بالذعر، حطمت معنوياتهم مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس، اعتبروا نجيب سرور الشيطان الأكبر، وكرهوا بروز نجم شعراء كأمل دنقل والصلاحين عبد الصبور وجاهين، أسقط في أيديهم، وعرفوا ان الرواية في خطر، هنا كان اجتماعهم الثاني، الجيل المؤسس والجيل الستيني الجديد، انعقد في سرية أكبر، في عوامة بنيل القاهرة، ناقشوا في هذا الاجتماع الوضع القائم، وأعلنوا حل الاتحاد وتأسيس تنظيم أكثر قوة وسرية وعنفا : الجمعية المصرية للروائيين الجدد : جمرج، أقسم أعضائها على القلم والخنجر أن يحموا الرواية بأي شكل ويعملوا على نشرها وسيطرتها بأي طريقه، حضر هذا الاجتماع أديب من (شرق المتوسط) كان من بين أوائل عناصرهم خارج مصر، وبدخول روائيين شرق المتوسط في الجمعيه تدفقت أموال طائله عليها زادت من نفوذها وقوتها.
توقف سعيد عثمان عن الكلام، وقد اعترته نوبة سعال جديده أسلمته لنوبة لهاث، استرخى في كرسيه كأنما يستريح من ماراثون طويل، أشرت للقهوجي بأحضار (حجر) رابع مخالف عادتي الراسخة في ألا يتجاوز ما أدخنة بالجلسة الواحدة ثلاثة حجاره.
لكن ما الذي يدفع الخليجيين لدعم جمعية مصرية سريه للرواية يا سعيد؟
نظر إلي مشفقا: أتعجب ان يصدر مثل هذا السؤال عن من هو مثلك يا أستاذ ياسر، أستعرض كم مسرحيا وشاعرا كان ميالا أو مرتبطا باليسار، أخذ يعد على اصابعه: الفريد فرج، يوسف إدريس، فتحيه العسال، نعمان عاشور، نجيب سرور، حتى عبد الرحمن الشرقاوي كانت إسلاميته مخلوطة بتقدمية ويسارية عميقه، لكن الروائيين كانوا في أغلبهم يمينيين او محافظين الهوى، ألا ترى أن الاعتقال والسجن كان غالبا من نصيب المسرحيين، بينما لم يمس الروائيين إلا نادرا؟

استعرضت في ذهني بسرعه ما أذكره من تاريخ القمع الحكومي للأدباء، ولم أجد حجة يمكنني بها أن أهاجم حجته القوية
الحقيقة يا سعيد اعتقد انك على حق، كيف لم انتبه لذلك من قبل؟
أستدار بكامله نحوي وقد عاودته نوبة الحماس المحمومة: هذه هي المصيبة يا أستاذ، هذه هي المصيبة، الحقائق والأدلة أمام الجميع، لكن لا احد يبدو قادرا على رؤيتها، هم ماهرون جدا في أخفاء وجودهم، المهم، الجمعية بدأت فيما ترسيخ وجود الروائيين بالأدب العربي انتظارا للحظة التي يطيحون فيها بأعدائهم، بدئوا بتحريك عميلهم وسط مجتمع الضباط، عميلهم الضابط/الأديب لو الأديب/الضابط ، بدأ بإقناع عبد الناصر أن الشيء المسمى (في سبيل الحرية) الذي كتبه في شبابه المبكر هي روايه وتستحق الإكمال والنشر، وهكذا ضمنوا ولاء أقوى رجل بمصر لقضيتهم، وعبره بدئوا بالتغلغل في كل مفاصل الدولة، وتجنيد المسئولين وكبار الشخصيات، حتى دون أن يعرف هؤلاء من الذي جندهم أو لماذا، بصعود أنور السادات للسلطه وعداوته الظاهرة لليسار الذي كما ذكرت كان مليئا بالمسرحيين والشعراء،هنا بدأت (جمرج) في عصر الإرهاب الروائي الأول: كانوا قد بدئوا بشن هجومهم من الستينيات على نجيب سرور بتجنيدهم وزير ثقافة ثورة يوليو لتحطيمه، ثم اجهزوا عليه بحقنه على فترات متباعدة بعقار خاص حصلوا عليه من المخابرات الأمريكية أصابه بالاكتئاب والمرض النفسي حتى مات، وهو نفس العقار الذي استعملوه على صلاح جاهين وقتلوه مكتئبا، أما أمل دنقل فقد سربوا مادة مشعة لسجائره حتى أصابوه بالسرطان الذي قتله.
ماده مشعه يا سعيد؟
نعم يا أستاذنا مادة مشعه، حصلوا عليها من الاتحاد السوفيتي عبر أتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي كان احد واجهاتهم العديدة، يوسف ادريس بكل جبروته وعنفه هددوه بفضح مغامراته العاطفية مع ممثلة شهيره كانت ناشئة مراهقه حين عرفها، فخاف وتوقف عن كتابة المسرح مكتفيا بالقصص القصيرة، اضطروا الفريد فرج للهرب للجزائر خوفا على حياته.


أستنى بس يا سعيد، مش معقول
إلا ان سعيد كان منطلقا في حماسته المحمومة، ولم يكن من الممكن إيقافه: ﻷ معقول، وأكثر، انت لا تتخيل مدى قسوتهم، حين كتب محمد حافظ رجب مقاله الشهير بالستينيات : نحن جيل بلا أساتذة، معترضا على سيطرتهم المحكمة على مسار الكتابة الروائية، لم يكتفوا بحصاره أدبيا، بل استعملوا نفس العقال ذو التأثير النفسي عليه حتى دمروه، واكثر من ذلك
أقترب بوجهه من وجهي حتى غمرتني رائحة السجائر والعرق: أتعرف لماذا قتل الضابط الروائي الرومانسي بقبرص؟ هم من قتلوه، كنت احدق مندهشا غير مصدق بعيني سعيد المحمومتين بشيء يشبه الجنون، هز رأسه مؤمنا، نعم هم من قتلوه، كان قد أستشرف مدى خطورتهم وسيطرتهم وحاول الانفصال عنهم، فقتلوه، استأجروا من دبر أغتياله ليتخلصوا منه ويدفنوه بسره، هكذا هم يا أستاذ، بلا رحمه، بلا تردد
إلا ان تلك لم تكن نهاية مؤامرتهم الكبيرة، بل البداية فقط، فبالخلاص من ألد أعدائهم، بدئوا في خطتهم لتسييد الرواية بشكل نهائي، فجلبوا الأموال الخليجية لتمويل المسرح الخاص، مدمرين الكتابة المسرحية ومحولين إياها لغث تافه يقدم فيما يشبه الملاهي الليلية، لئلا يتجرأ أحد على كتابة مسرح حقيقي او جاد، وبنفوذهم في وزارة الثقافة دمروا المسرح القومي ومسرح الطليعة، وزرعوا فاروق حسني وزيرا لكي يطلق مهرجان المسرح التجريبي، ليؤسس مفهوم المسرح بلا نص، هكذا قضوا على المسرح كفن أدبي، ثم دفعوا بنبيل فاروق ليسيطر على العقول الشابة بما كان يهرف به مما سموه (روايات)، اما التسعينيين وقد كان أغلبهم شعراء فما زلت حتى الآن أجمع أطراف المؤامرة التي حاكوها ضدهم فدفعوهم جميعا للصمت والموت الأدبي، وتلك واحدة من الأسئلة التي لم تتوقف يا أستاذنا عن طرحها: ما الذي حدث للتسعينيين ولماذا توقفوا فجأة واندثروا؟
لقد قضوا عليهم، وفي الفراغ الذي حدث بأختفائهم ، كان اليساري النحيل الطويل مستعدا للدفع بدار نشره ذات الاسم الفرعوني، التي جمعت المدونين مطلقة حقبة كاملة من الكتابة الأدبية المسطحة الجوفاء تحت أسم روايات، القضية بالنسبة لهم لم تعد مجرد تسييد الرواية، فمع الوقت تضخمت (جمرج) ولم تعد مجرد جمعية للروائيين، أصبحت متورطة في أجهزة الدولة، وعلاقات دولية واسعه، وارتباطات عميقة بالشركات العالمية وارتباطات أعمق بالأجهزة الأمنية والسيادية وأدوات الحكم، أصبحت مهتمة بالحفاظ على النظام الذي ترتبط به وتنمو في ظله وتندمج مع أجهزته، وبرحيل الأجيال المؤسسة الأولى الذين كانوا مبدعين أدبيين حقيقيين حل محلهم جماعة من الأرزقيه و(السبوبجيه) بقشور ثقافة ومواهب ضحلة لا يتجاوز عمقها عقلة الإصبع، القضية أصبحت السيطرة على سوق الأدب نفسه، ألا يكتب احد غير ما نكتب، ألا يخرج احد عن المستوى المطروح من الفجاجة وضعف الإبداع والموهبة، أصبحت (جمرج) أداة ضخمه هدفها عزل كل مبدع حقيقي وتدميره وحصاره والقضاء عليه، أصبحت جرج هي من تضع المواصفات القياسية للرواية وتحرص على عدم الخروج عنها، بداية من دار النشر ذات الاسم الفرعوني التي حولت المدونيين لروائيين، ودور النشر التي تتكاثر كالفطر مكرسة نفسها لنشر الروايات الجديدة، وشبكات المكتبات الفاخرة التي لا تفعل سوى الترويج لتلك الروايات.

سكت سعيد فجأة، بدا وكأن الإجهاد قد حطمه، كأنما ذكر كل ما قاله قد أستنزف طاقته، انحنى ساندا كوعيه على ساقيه مطرقا للأرض: الموضوع كبير يا أستاذنا، كبير قوي، من أول طبيب الأسنان اللي برواية مسروقه صنعوا منه روائيا كبيرا وفيلسوفا لثورة يناير مرورا بدار النشر الفرعونية الاسم ودورها الغريب في السيطرة على التحرير، وصولا لفوتوغرافي مبارك الذي صنعوا منه الأديب الأول بمصر، شبكة هائله من المترجمين والصحفيين والناشرين والمكتبات والمؤسسات، هدفها نشر نوع بعينه من الرواية، حتى الشعر قتلوه، كما ذكرت انت مره على الفايس بوك: الشعر المصري مات وشاهدا قبره الجخ وقطامش، رفع رأسه ثائرا وعصر ذراعي وعيناه تتقدان غضبا: بقى بالذمه دول شعراء؟!! حتى الشعر حاصروه ورسموا له مسارا يقوده للموت النهائي والفناء، أصبح كل شخص تقريبا صاحب رواية منشوره، أصبح من يمتلكون رواية منشوره اكثر ممن يمتلكون سيارات، عمل فج سخيف تلو الأخر، ويجدون من ينشر، ومن يترجم ومن يدبج مقالات التقريظ والمديح، مؤامرة هائله يا أستاذنا، مؤامرة...
كان علي أن أضع مبسم الشيشة وأنهض لأجلس سعيد بعد أن وقف منحنيا على الطاولة وهو يرفع صوته وجسده كله يرتعد بالغضب والغيظ.
أهدأ يا سعيد، أهدأ ، أجلس، لقد أثرت انتباه الزبائن القليلين الذين أتوا للمقهى.
بدا كأنني سكبت دولا من الماء البارد على رأسه، أظلمت عيناه مرة أخرى، وانهد في كرسيه مسحوقا، يهز رأسه في يأس وبصوت منتحب ولول بهمس: لقد انتصروا فعلا يا أستاذ ياسر، انتصروا فعلا، أتعرف ما معنى الجملة التي على شعارهم؟
سحب الورقة من جيبه وبسطها أمامي ثانية، قرأت بصوت هامس: هي اور لا نمز هنا
ليس لها معنى يا سعيد، بأي لغة هي؟
أبتسم أبتسامة تقطر مرارة وقال : أقرأها بالعكس
فعلت، فإذا الجملة تظهر أمامي واضحة جليه: انه زمن الرواية الآن
حدق في عيني وقد أدرك انني فهمت ما يقصد، انه زمن الرواية الآن، الشعار الذي وضعه المؤسسون في ثلاثينيات القرن الماضي، لحظتها أدركت ما يقصد سعيد عثمان بأنهم قد انتصروا فعلا.
لبثنا نحدق أحدنا في عيني الأخر لثوان منبهرين بالكشف الذي نتشاركه.
نهض سعيد ومد لي يده مصافحا: اﻷن انت تعلم ما أعلمه، تعلم ما عفته عبر عشر سنوات، تعلم لماذا أنا خائف ومطارد وحياتي مهدده، أسف أنني أشركتك معي في هذا السر المظلم، لكني لا امتلك فقط الحكايات، لدي وثائق وإثباتات مكتوبه، رسائل ومحاضر جلسات، نجحت في تهريبها خارج مصر وقت وقت الثورة، هي لدى صديق خارج مصر، اتفقت معه أنني لو اختفيت ولم أتواصل معه عبر الأنترنت أن يرسل لك نسخة رقمية منها، أنا اتق فيك بك واعرف انك لن تتردد في فضحهم، أو افعل بها ما شئت، لكن تذكر أن أنسانا قد ضحى بحياته للحصول عليها، أنا سأنصرف الآن وسأحاول الاتصال بك مرة أخرى

سحب يده بسرعه واستدار منصرفا، أمسكت كتفه: أنتظر يا سعيد، كيف أمكنك أن تعرف كل هذا عنهم؟
أستدار بجانب وجهه، كانت عيناه مختنقتان بالدموع : كنت واحدا منهم يا أستاذ ياسر، أم كيف تظن أن ضعيف الموهبة مثلي يمكنه أن يصدر ثلاث روايات متتاليه؟ كنت واحدا منهم، تملص من يدي وانصرف مسرعا متلفتا، لم اره بعدها ولم يتصل بي أبدا.

الاثنين، 6 أكتوبر 2014

المزايدة على المزايدة



تأسيس: في عتمة الديماجوجيا التي نتعامل بها مع القضية الفلسطينية، من الصعب أن تفرق ما بين المواقف القومية الأصل وما بين المواقف الإسلامية الأصل، كما يصعب في عكارة (الترعة) أن تفرق ما بين البطن الاخضر للبلطي البلدي والبطن الأحمر للبلطي المستورد.


 من تعس الحظ في هذا الشرق الأوسط أن تجد نفسك في موقف الدفاع عن اليسار السلطوي العربي، رغم أنك قضيت حياتك كلها تقريبا تناوئه وتعارضه- من على يساره، وليس من على يمينه- إلا أن الموقف ليس دفاعا عن ذلك اليسار، بل دفاع عن (الحقيقة) التي تغرق في عكارة مهندسة عمدا ومحكمة الصنع على يد كاتب يمتلك أدواته كالأستاذ وائل قنديل رئيس تحرير جريدة العربي الجديد، والمنشور مقاله في عدد الاثنين 6 أكتوبر، عن زيارة الصحفية الإسرائيلية (عميره هاس) إلى جامعة بيرزيت وحادثة طردها منها. أولا يبدأ الكاتب بمهاجمة اليسار العربي وموقفه من القضية الفلسطينية، وهو الشىء العجيب من كاتب ذو جذور ليبرالية- لا أعرف انتمائه الأيدولوجي الحالي- فلا يمكن في الحقيقة المزايدة على موقف اليسار السلطوي العربي– الماركسيين والناصريين تجاوزا- من القضية الفلسطينية، فقد شغلت هذه القضية دورا محوريا مركزيا دائما في الحراك السياسي اليساري يفوق بمراحل حتى القضية الطبقية- التي هي القضية الأساسية ﻷي يسار- فقد كانت دائما هي المقدمة والركيزة والمحور. -دعك من تلميحات الخبثاء أن الدافع لذلك هو الشيكات المتخمة التي كانت تمنحها منظمة التحرير كرواتب شهرية-، بل إن انتماء اليسار العربي وولعه بالقضية الفلسطينية يسبق الولع الإسلامي بها– دعك من تلميحات الخبثاء أن الإسلاميين قزموا القضية الفلسطينية لقضية غزاوية باعتبارهم حماسستان الامتداد الأيدولوجي لهم- الحقيقة أن الفصيلين رغم ما بينهما من صراع وعراك تاريخي يتحدان ويتشابكان في موقفهما من القضية الفلسطينية لدرجة مدهشة، بنفس المقدار من الحماسة والديماجوجية والتشدد، وعليه فإن قضية المزايدة على موقف اليسار من فلسطين هي قضية ليست فقط خاسرة، بل ومضحكة.

 ومن اليسار العربي إلى اليسار الاسرائيلي الذي حقيقة لا أثق فيه وأجده شديد التقارب مع الصهيونية كأيدولوجية (قومية/دينية)، بداية من، حزب العمل يمينا وصولا للحزب الشيوعي الاسرائيلي يسارا. لكن اليسار السلطوي الاسرائيلي ليس الوحيد بالمنطقة المصاب بالمرض (القومي) فذلك الوباء يتفشى بقوة وسط اليسار السلطوي بالشرق الأوسط كله، وهو عموما لا يراه مرضا، بل يعتبره جزء أصيل من قناعاته وتكوينه،
 لكننا لن نغرق في مقال تشريحي عن اليسار الشرق أوسطي وأمراضه التاريخية.

يقول الأستاذ وائل قنديل في مقاله إن طلاب جامعة بير زيت هم من طردوا (عميره هاس) من الجامعة، وأنا أسأل بوضوح: هل طردها طلاب جامعة بير زيت أم طردها تحديدا طلاب الكتلة الإسلامية في جامعة بير زيت؟ لنحدد أن الموقف هو موقف الإسلاميين أيدولوجيا وليس موقف (الطلاب) عامة، خاصة أن الجامعة أصدرت بيان اعتذار عما أسمته فعلا فرديا. والحقيقة أن من طردوا عميره تعللوا بقاعدة جامعية تمنع استضافة كل من يحمل الجنسية الإسرائيلية، هكذا؟ وماذا عن زيارات سابقة لعميره للجامعة نفسها؟ وماذا عن زيارات محمود درويش (عضو الحزب الشيوعي الاسرائيلي) وسميح القاسم للجامعة وكلاهما حمل الجنسية الاسرائيلية وقت الزيارة؟ أم أن المشكلة ليست في الاسرائيلي، بل في (اليهودي)؟ لا أظن ذلك.

 وهنا نعود للقنبلة التي يلقيها الأستاذ وائل قنديل في مقاله...
 “ولو كانت الصحافية مع الحق الفلسطيني فعلاً، لما تباطأت لحظة في التخلّص من "إسرائيليتها"، كما فعل يهود آخرون انحازوا لإنسانيتهم وأقرّوا بالحق، مثل الحاخام الذي أحرق جواز سفره الإسرائيلي أمام عدسات التلفزيون في تظاهرات منددة بالهمجية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة ٢٠٠٩، وكما فعلت أيضاً المحامية اليهودية فيليتسيا لانجر، التي لم تكتفِ بأن أخذت على عاتقها الدفاع عن الفلسطينيين في غزة والضفة، بل تخلّصت من جواز سفرها الإسرائيلي، بعد الانتفاضة الأولى، وقررت العيش في أوروبا بجنسية أخرى".

 قنبلة فعلا، ومنطق يلقى في وجوهنا دائما حين نتحدث عن نضال الاسرائيليين ضد الصهيونية والتفرقة العنصرية، كش ملك، فكيف يمكنك أن ترفض هذا المنطق، ليرحلوا لو كانوا ضد الصهيونية.
 السؤال هو: هل رحيل بضع مئات أو ألاف من الإسرائيليين المناهضين للصهيونية عن إسرائيل سيفيد القضية الفلسطينية؟ هل تظنون أنهم يعيشون في رفاهية النضال مثلا؟ ما الذي يدفع شباب حركة (ضد السور) الأناركية بإسرائيل للنضال ضد سور العزل العنصري حتى يزج بهم جميعا في السجن لمدد تصل إلى 12 عاما؟ ما الذي سيكسبه مناضل في السبعين من عمره مثل (ايلان شاليف) بتنظيم مسيرات ووقفات احتجاجية أسبوعية ضد جدار الفصل العنصري وسياسات الدولة الصهيونية ليتم إغراقه أسبوعيا بالغاز المسيل للدموع وتهديده بالاعتداء عليه جسديا؟ السؤال هو: أين علينا أن نقاوم ونحارب الصهيونية؟ في وجهها وعلى الأرض التي تنشط عليها وجها لوجه، أم في أمان غرفنا المكيفة خارج مجال سيطرتها وبعيدا عن أخطارها؟
 حتى لو رحل هؤلاء المناضلون ضد الصهيونية، فمن سيبقى؟ سيبقى الصهاينة، والمتطرفين والمؤمنين بحق اسرائيل في الأرض وبحقها في قتل الفلسطينيين، الذين سيكونون وقتها قد حرموا حتى من الحليف المتواضع والحماية الضئيلة التي يوفرها لهم ذلك النفر من الاسرائيليين المعادين للصهيونية، من سيكون لهم وقتها؟ المناضلين من الغرف المكيفة؟ ام صواريخ حماس التي لن تحرث حقلا ولن تجمع ثمرا؟
 نصل هنا لحماس، حماس التي لم يذكرها الأستاذ وائل قنديل في مقاله نهائيا، رغم أنه يمكن رؤية شبحها وتحسس بصمتها في كل سطر من مقاله، نعود هنا لماذا أنا لا أظن أن كون (عميره هاس) يهودية هو السبب الرئيس في طردها من جامعة بيرزيت الحقيقة المخفية بمهارة أن (عميره هاس) كما تنتقد بعنف السياسة الصهيونية العنصرية اسرائيل وهي المقيمة أغلب الوقت بالمناطق الفلسطينية، قد ارتكبت الخطيئة العظمى، وبصقت في البئر المقدسة متوضأة بالحليب، فتجرأت على كتابة مقال توجه فيه لحماس أسئلة من قبيل :

حسب الاستطلاع، فان 43 في المئة من سكان القطاع الذين تحت حكمكم يريدون الهجرة (20 في المئة يريدون الهجرة من الضفة الغربية).

 هل تتنكرون للمسؤولية عن هذا المعدل العالي من المهاجرين المحتملين؟ مكانتكم قبل الحرب كانت في أسفل الدرك. فهل هذا هو انتصاركم– في أن التأييد لكم ارتفع؟

 يمكن قراءة كامل المقال بكل أسئلته الحارقة على موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ومقال أقدم ينتقد حماس كذلك
  ها هو الماء يصفو، لنرى ما يربض في القاع، عميره تجرأت على خدش قداسة وبهاء وروعة وسماوية النصر الحمساوي الغزاوي الأخير بأسئلتها المتزندقة، الأسئلة التي لم يمنعها من طرحها الإرهاب الفكري واللفظي الذي يتسلط علينا نحن من نتحدث لسان العربية فكان جزائها أن طردها نفر من الطلبة الإسلاميين التوجه من جامعة بير زيت، ضاربين بعرض الحائط كل تاريخها في التصدي للصهيونية العنصرية ومن مساندة الحق الفلسطيني، رافعين شعار: ما بعد مسائلة حماس ذنب. عرفت يا أستاذ وائل قنديل عميره هاس انطردت من بير زيت ليه؟
وأنا عرفت انت كاتب مقال بتدافع فيه ليه عن طردها
ياسر عبد القوي.

الأربعاء، 1 أكتوبر 2014

على ضفاف نهر الجنون

مقالتي لمجلة البديل التحرري الأناركيه الفرنسيه عدد نوفمبر القادم.

كيف يمكن الحديث عن مصر الأن؟

هل يمكنك ان تتخيل نسخة كوميديا سوداء من رواية جوروج اورويل 1984؟

توفيق الحكيم،هو واحد من اهم الكتاب المسرحيين العرب بالقرن العشرين،له مسرحية قصيرة بعنوان : نهر الجنون، عن مملكة تسمم نهرها الوحيد مما اصاب سكانها جميعا تقريبا بالجنون، هذه هي مصر الأن، تعالوا معي في رحلة بالبلاد التي على ضفتي نهر الجنون.

إعتاد الإعلام المصري الرسمي بعصر مبارك نفاق النظام، وتجميل أفعاله،ونشر الأكاذيب عن الرخاء والوفره القادمين قريبا بسبب ذلك المشروع أو ذاك، ذلك طبيعي في اي بلد يحكمه نظام ديكتاتوري بوليسي شبه عسكري، اما في عصر السيسي فقد بلغنا افاق جديده في التزييف الإعلامي لم تخطر على بال (جوبلز) نفسه، ليس فقط الصحف القوميه المملوكه للدوله، بل الصحف والفضائيات الخاصه، ومئات الصحفيين والإعلاميين والكتاب والمثقفين من أقصى اليمين الليبرالي وصولا ﻷقصى اليسار الماركسي يعزفون جميعا معزوفة واحده:
عبد الفتاح السيسي، القائد العظيم الملهم، البطل الذي أنقذ مصر، الزعيم الجبار الذي ترتعد فرائص الولايات المتحده منه والذي يهابه العالم كله ويراه أخطر وأهم رجل بالشرق الأوسط، وكيف انه أمل مصر الوحيد والتاريخي، وكيف ان الاقتصاد المصري يقفز قفزات كبيرة للأمام وان كل أزماته قد انفرجت وانتهت، وان مصر تدخل عصر إزدهار اقتصادي ووفرة لا مثيل لهما بتاريخها الحديث، اختفت تماما ومطلقا أي همسات ولو ناقدة او معاتبه، وحتى هذا المستوى من النفاق المطلق للدوله ليس بكاف، فالجنرال السيسي يعبر في أحد خطاباته عن غضبه على الصحف التي سخرت من رئيس وزرائه- وليس هو شخصيا فهو مقدس لا يمس- بسبب الحاله الكارثيه لإنقطاع التيار الكهربائي المستمر، وتستمر السيمفونيه العجيبه تتحدث عن عصر الحريه الرائع الذي تعيشه مصر تحت حكم الجنرال المعجزه، وكيف ان مصر تخوض حربا ضروسا ضد الإرهاب وأن علينا كوطنيين شرفاء أن نتوقف عن المطالبه بأي حقوق اجتماعيه ونتحمل من أجل وطننا الغالي، نعم ، تم تفعيل الوطنيه في هستيريا جماعيه لم توجد حتى بأكثر فترات الستينيات الناصرية جنونا، فكل أعتراض او نقد هي خيانه وأنحياز لأعداء الوطن، وكل أجنبي يأتي مصر هو عميل للمخابرات الامريكيه والبريطانيه والفرنسيه والتركيه والقطريه.

أما الحقيقه فهي النقيض، فالشارع المجهد والمحبط بعد فشل كل محاولة لتكرار أنتفاضة 25 يناير 2011 الشعبيه، والغارق في الخوف من الإرهاب وأنهيار الدوله ودخول (داعش) وان نصبح مثل سوريه والعراق- الجمله الأكثر شعبية الان بالإعلام المصري: نحن افضل من سوريه والعراق- هذا الشارع المحبط والمجهد واللامبالي يتلقى الصدمات المتتاليه من النظام دون أن يبدو راغبا في الاعتراض، فقد تم تخفيض دعم السلع الغذائيه لبديل نقدي لا يتجاوز الدولارين للفرد شهريا،وارتفعت أسعار المحروقات مما رفع أسعار كل السلع بالتبعيه، ورفعت أسعار الكهرباء والمياه وتكلفة الاتصالات، التيار الكهربائي ينقطع عن أغلب المدن المصريه يوميا تقريبا لفترات تتراوح ما بين الساعتين إلى العشر ساعات، وكثيرا ما يصحبه أنقطاع للمياه كذلك، منذ أسبوع حاول عمال احد المصانع الخاصه بالإسكندريه الإعتراض على تأخر رواتبهم فأطلقت الشرطة عليهم النار مصيبة سته ومعتقلة ثمانيه، النظام يتعاقد مع شركة أمريكيه لإحكام المراقبه على مواقع السوشيال ميديا، رؤساء الجامعات يبشروننا بأن الجامعات ستستقبل الطلبه بالعام الدراسي الجديد وقد تحولت لمعتقلات حقيقه، بأسوار من الأسلاك الشائكه وبوابات إلكترونيه،وكاميرات مراقبه، وشركات حراسة خاصه مصريه وأجنبيه مدعمة بالكلاب المدربه، مع تهديد بفصل أي طالب أو عضو هيئة تدريس يتهم بالتظاهر أو يوجه إهانة للجنرال المقدس، لكننا نعيش عصر حرية غير مسبوق كما يؤكد لنا الإعلام والمثقفين.


الدوله نفسها تبدو كأنما أصابتها الهستيريا، فوزير التعليم يصرح ان وزارته بنت مصانع لإنتاج الألواح الشمسيه والمصابيح الموفره للطاقه، بينما تعجز عن طباعة الكتب المدرسه التي لن يتسلمها الطلاب إلا بعد أسبوعين من بدء الدراسه،وتعاني اغلب المدارس المصريه من الإزدحام وتصدع مبانيها، وكيل المخابرات السابق يحذر في حوار صحفي من مؤامرة على الدوله بطلتها (عروسه ماريونيت) تظهر بإعلانات شركة أتصالات محليه، ومحاكم تنعقد في( أكاديمية الشرطه) يصدر قضاتها أحكاما تعسفية دون حضور المحامين ودون أدلة أو التزام بأدنى الإجراءات القانونيه، ومع عدم وجود برلمان بمصر – ويبدو ان لا احد يتعجل وجوده- يمارس السيسي سلطات لا نهائيه كرئيس و ك Lord Protector وكمصدر للتشريع، بينما تقوم الأله الاقتصاديه العملاقه للجيش بالسيطرة على كل نواحي الأقتصاد المصري بشراهة مذهله محيلة البلاد كلها لإقطاعية خاصة بالجنرالات وظباطهم. يبدو الشارع مصدوما ومحبطا لدرجة اليأس، فهو يدرك انه لا توجد قوة يمكنها التصدي للجيش الذي أثبت وحشيته الدمويه في مجزرة فض أعتصام (رابعه)، وبينما يتلاعب الإعلام بعقل رجل الشارع ليل نهار، فلا يبدو أنه توجد أي فكرة سياسية مطروحه في الشارع كبديل لهذه الصوره الكاريكاتيريه الشوهاء لحكم الديكتاتوريه العسكريه، فقط تحذير عبثي من أن لا نتحول لسوريه او العراق.

أعتذر للقارىء الذي كان يتوقع من هذا المقال تحليل سياسي أو أيدولوجي متعمق، ففي بلاد تتغذى على الجنون لا يوجد ما هو جدي أو صلب بما يكفي لتحليله، فقط هذه السورياليه المظلمه الشائهه المسماه: مصر.

ياسر عبد القوي

الحركه الاشتراكيه التحرريه- مصر

مصيدة الجنرالات

ده مقالي لعدد مايو الماضي من مجلة البديل التحرري ، الأناركيه التي تصدر بالفرنسيه، أكيد طبعا هو متأخر كتير، لكني انشره بالعربيه للمره الاولى تأكيدا على انه يمكن أكتشاف والتنبؤ بالمسار الطبيعي للحكم العسكري في مصر

مصيدة الجنرالات

يقولون: سقط ضحية نجاحه،ويبدو إن عبد الفتاح السيسي هو نموذج لصحة هذه المقوله، فالرجل الذي امتلك في يوليو الماضي قوة بدت وكأنها غير بشرية وشعبية جارفة تضرم نيرانها آلة إعلامية عملاقة- يمتلك أغلبها القطاع الخاص- الرجل الذي بلغ القمة يبدو إن برودتها ووحدتها- ككل القمم- قد جمدته، فهو في عدالة شعرية ساخره كأنما يسير في نفس مسار الرئيس الذي انقلب عليه (=محمد مرسي) فهو لا يفعل شيئا سوى ترديد خطابات عاطفية شبيهة بخطابات مرسي- وإن كان والحق يقال أقل ثرثرة منه- مملؤة بالجمل الفصيحة التي لا تعني شيئا حقيقيا ومراكما الأنتصارات الإجرائيه من تفويض شعبي وتحصين قانوني وتعديل لقوانين تجعله الحاكم الفعلي والقانوني لمصر لا الرئيس الألعوبه (عدلي منصور) الذي وضعه السيسي على كرسي الرئاسه، إنتصارات إجرائيه لكن بلا أي إنجاز من أي نوع في العالم الواقعي، فالملفات التي اتخذ فشل مرسي فيها ذريعة لإسقاطه لم يكن حظ السيسي فيها بأفضل منه، فانقطاع الكهرباء عاد لنفس وتيرته،وملف سد النهضة الأثيوبي ما زال مستحيل الحل،مع إرتفاع مضطرد في الأسعار وانهيار لقيمة العمله وتلاشي قطاع أقتصادي هام كقطاع السياحة تماما، بينما الرجل يتدلل ويتمنع دون أن يحزم أمره فيما إذا كان سيترشح للرئاسة أم لا، الدلال الذي أعتقد ان سببه عدم رضاء المؤسسة العسكرية عن إعتلاء طفلها المعجزه كرسي الرئاسة وهو الذي قفز في خلال ثلاث سنوات من رتبة لواء لفريق أول لمشير رغم قلة أقدميته وسنه مقارنة بعشرات من الجنرالات، إن أزمة السيسي هي في الحقيقة أزمة الطبقة المصرية الحاكمة بمدنييها وعسكرييها- والتفرقة بينهما وظيفية بحته- فهي واقعة ما بين تناقض خطابها الشعبوي الذي يحاول تحضير روح الستينيات الناصريه وما بين إنحيازاتها الطبقية الحاده التي تظهر في الإضطهاد المستمر للعمال النقابيين والمضربين والتي يشارك فيها الجيش بنشاط ووضوح ويعبر عنها السيسي في خطابه الذي يدعو الشعب للتقشف بينما يضخ الملايين في الإرتفاع بالأجور والخدمات المقدمه لوزارة الداخليه- القويه والمرهوبة الجانب- ومؤسسته العسكرية طبعا والتي يبدو أن طبيعتها الثانيه كمؤسسة إقتصادية احتكاريه قد تفوقت على طبيعتها كمؤسسة عسكريه فانطلقت في جشع محموم للسيطرة على أغلب أوجه النشاط الإقتصادي في مصر خاصة قطاع المقاولات الحكوميه المكتنز بالميزانيات الضخمه، وهو ما يسبب الكثير من الضيق للرأسمالية المدنيه الكبيره المقربة من آل مبارك والتي ترى نفسها الوريث الأحق بمصر بعد أن مولت ونظمت حملة إسقاط حكم الإخوان- الذين لن ينسى أحد إنهم وصلوا للحكم عبر تحالف قوي مع العسكر وموافقتهم التامه- فالجيش يبدو راغبا ليس فقط في إلتهام كعكة الحكم بمصر بل يضيف عليها كعكة الإقتصاد تاركا لحلفائه دور التابعين الراضين بالفتات،وهو ما يتناقض مع طموحهم في إعادة لم أشلاء نظام مبارك حيث كانوا شركاء لا أتباع للجنرالات، ربما يكون للخطاب الأجوف المطلي بالوطنيه للسيسي عمر صلاحية أطول مما كان للخطاب الإخواني الأجوف المطلي بالتدين، إلا أنه سيثبت زيفه لامحاله، وكما حدث لمرسي والإخوان سيكون مصير السيسي الذي أعلن نفسه صانعا للمعجزات قبل شهور، ثم فقد شجاعته ونشوته بانتصاره السهل فبدأ يتراجع عن وعوده الفائقة اللمعان متحدثا عن الإشكاليات العميقه التي تواجه الاقتصاد المصري وأنه من المستحيل في الظروف الحاليه تحقيق وعده الحالم بأن تكون مصر (قد الدنيا)، بل إنه يروج لمقولة عجيبه أنه لا مانع من التضحيه بجيل أو أثنين لكي تعيش الأجيال التاليه في رفاهيه، وهي الخطه التي لا أعتقد نهائيا ان الجيل الذي يخطط للتضحية به يوافق عليها بأي حال، ولعلنا لا ننسى أن الشارع كان يهدر منذ عامين بهتاف : يسقط يسقط حكم العسكر، ولعلنا قريبا نعيد سماع هذا الهتاف في الشوارع من شعب نفذ صبره من تواتر الوعود الزائفه بحياة أفضل بينما تسحقه الأزمة الإقتصاديه بلا رحمه.

ياسر عبد القوي
الحركه الاشتراكيه التحرريه-مصر