الأربعاء، 22 يوليو 2015

عرس بغـل ....الجنرال


قرأت رواية (عرس بغل) للكاتب الجزائري الكبير
 الطاهر وطار في أواخر الثمانينيات منشورة في
طبعة رديئة- كالعادة- لروايات الهلال، وكأغلب ما يقرأ المرء في مراهقته التصقت الرواية بذهني، خاصة عنوانها الملغز (عرس بغل) جملة متناقضة، فكيف يكون لحيوان بلا جنس عرس؟!! عرس البغل كما يشرحه الطاهر وطار بروايته التي تدور بالعالم السفلي لبيوت الدعارة الجزائرية بأوائل القرن العشرين، يمثل عرس البغل فيها ذروة أحداثها وانفجارها، وهو كما تشرحه الرواية ببساطة حدث أحتفالي تقوم به بيوت الدعارة الكبيرة حين تعلن صاحبتها عن تبرعها بمبلغ نقدي لختان عدد من أولاد الفقراء وتفريق الحلوى والملابس عليهم، وتتخذ مبادرة البر والإحسان هذه كمبرر لإقامة احتفال كبير بهؤلاء الفقراء، هذا الاحتفال في الحقيقة هو (مهرجان دعارة) تشترك فيه عدة من المنشآت المتخصصة في هذا النشاط وفي هذه الاحتفالية تتعاظم أرباح صاحبة البيت الداعي - ربة البر والإحسان- التي تحصل على نسبة من كل (صانعة) تشارك في (عرس البغل) الذي تقيمه، ببساطه هو احتفالية زائفة لتبرير شيء أخر أبعد ما يكون عن أساس الاحتفالية المعلن.

تخيل كم من (عرس بغل) شهدته مصر خلال... لنقل أخر 40 عاما او نحوها، الانفتاح، شرق العوينات، فوسفات أبو طرطور، قناة توشكي ...إلخ، مشروعات قومية وطنية عملاقة تقبل محوطة بزخم إعلامي هائل ووعود أسطورية بتغير جذري وشامل للحياة بمصر حين يكتمل المشروع، ثم تدبر بخيبة أمل هائلة لا يدانيها في ضخامتها إلا حجم الأموال المهدرة في تلك المشاريع.

يبدو الجنرال السيسي عصيا على السياسة، أشهد له بذلك، فأدوات السياسة لا تعمل فيه، وقواعدها لا تنطبق عليه، وتحليلاتها تعجز أمامه، ذلك أن الجنرال لا يقوم بأي شيء يمكن تسميته (سياسة) حتى بالمعايير شديدة التدني للسياسة المصرية، ما يحدث ببساطة هو الأتي :

تخيل مسرحا كبيرا يقف في مقدمته الجنرال السيسي يلقي خطاباته اللوذعية المرتبكة العبارات والمبهمة المعاني والتي تنتهي بالهتاف ثلاثا: تحيا مصر، تحيط به جوقة من الراقصات والمغنيين والمحبظاتيه والقرداتيه والطبالين والزمارين والشعراء والمنشدين ولاعبي الأكروبات والثلاث ورقات، ونافخين النار، وبتاع (عاوز تلات رجاله يكتفوني)، وتتسلط عليه الإضاءة الباهرة، ويجلس أمامه جمهور منتش متسلطن لا يقبل أي إزعاج يقاطع أندماجه في حقة (الزار) الوطنية التي يقيمها بطله المفضل، وفي خلفية المسرح، بعيدا في الظل، نصف مختفية في الكواليس، ألة عملاقة لا تتوقف عن العمل، الة تنتج القوانين بكثافة هستيرية، تستجلب المساعدات الخارجية وتودعها في حسابات سرية مخفية، تعقد صفقات غير مبررة بتمويلات مريبة واتفاقات مخفيه، أله تعمل في هستيريا وكفاءة لأجل هدف غامض لا يمكن تخيله، ولا يمكن معرفته، هدف يتصف بالاستيلاء و(التكويش) والاستنزاف، لكن ما هي طبيعته وكينونته الحقيقية؟ يبقى الامر أقرب للأساطير منه للوقائع ولأفلام الرعب الخيالية منه لخطة واضحة مفهومه، الجنرال هو البهلوان الذي يشغل أعين الزبون وحواسه، بينما (المعلمين) ينظفون جيوبه وينهبون متاعه، الحقيقة أنا لا أتخيل للجنرال السيسي دورا أعمق ولا اهم في إدارة مصر غير هذا، دور العصفورة التي تخبل عيي الضحية ووعيه.

لنذهب أعمق قليلا...

يبدو انه يجب أن يكون لكل حاكم لمصر (هرم أكبر) ، مشروعا قوميا عملاقا خالدا يغير وجه الحياة والعالم ويبقى حاملا ذكراه مدى الدهر، لا يهم إن كان نافعا أم بلا جدوى، لا يهم إن كان حقيقيا ام من قصاصات صحف وأوبريتات، الحقيقة يجب أن يكون له (هم أكبر) و(قادش) نصر عسكري كبير يباهي به الامم، لا يهم إن كان حقيقيا أم أضغاث صحف، حرب أستنزاف، عبور، اول ضربه جويه، حتى مرسي لفقوا له (العملية نسر) الكرتونية، فلا يجب أن يخرج احد عن التقليد القديم المستقر.

الجنرال السيسي يمثل مشكلة كبيرة هاهنا، فالرجل بلا تاريخ عسكري مطلقا، ومساره الوظيفي المنشور يؤكد انه تمتع منذ تخرجه من الكلية العسكرية بواسطة من العيار الثقيل أبقته في طراوة وليونة المكاتب، فهو لا (ينزل) للوحدات إلا مضطرا حين يحين ميعاد ترقيته أو فرقته، ليعود سريعا بعدها لحضن المؤخرة السمينة الهائلة الوثيرة للجيش المصري لا تاريخ عسكري له وإنجازه الوحيد هو أنقلاب عسكري خائب أضطر فيه للتخفي خلف مولد شعبي بليزر ودي جيه وهز أرداف، وعمليته العسكرية الوحيدة هي مجزرة ضد مدنيين عزل ، فأر مؤخرة حقيقي على حسب التعبير العسكري الغربي، فلا (قادش) هاهنا ولو ملفقه، وجيشه بالكاد يحاول ألا تنتزع منه محافظة كاملة على يد مليشيا مجهولة الأصل والتاريخ، إذا ليكن لي إهرامات عديده، هكذا يحدث نفسه، وها هنا يخرج الأمر من السياسة لندخل منطقة الطب النفسي، وتحديدا الخلل النفسي، الهستيريا وجنون العظمة الذي يتحول لهلوسة وهستيريا ،  مؤتمر أقتصادي سيأتي بمئات المشاريع لمصر، سرب من اغلي طائرات في العالم لم يشترها غيرنا ب 5 مليار يورو، قناة سويس جديدة ب 60 مليار جنيه، عاصمة جديدة ب 350 مليار دولار ، أستصلاح نصف مليون فدان ب 50 مليار جنيه، وتحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر، ويرتفع ضجيج الجوقة كأنما تلبستهم الشياطين، وتنتقل الهستيريا للمتفرجين فينهضون، يدورون ويتخبطون وهم يهتفون : تحيا مصر، وفي الخلفية الأله الهائلة الراقدة بالظل تقوم بعملها، فتنتزع المليارات من صناديق معاشات النقابات وتورط البنوك في تسديد أرباح شهادات أستثمار القناة، وتنتج قانونا يحول هيئة قناة السويس لشركات مساهمة مطروحة بالسوق، كل هذا ومليشيا مجهولة توجه ضربات مؤلمة لقوات الجيش بسيناء، وتفجر معسكرا قرب القاهرة وتقصف زورقا حربيا، وأي كلام تقوله غير كلام البيان الرسمي للجيش سيحبسك عامين...مولد، مولد حقيقي لجنرال مصاب بجنون عظمة مرضي وألة عملاقة من رجال أقل لمعانا تعمل في الخلفية، رجال يمتلكون السلطة والسطوة والخبرة الطويلة في حلب البقرة العجفاء المسماة مصر.

قناة السويس الجديدة التي هي تضخيم إعلامي هستيري ل التفرعية ذات ال 35 كيلو مترا حفرا عملت فيه 75% من كراكات العالم لإنجازها في عام واحد فقط، ليه؟ لإرضاء جنون الجنرال وشهوته لبناء هرم حتى لو كان هرم من إهدار المال العام والديون، عرس بغل يقيمه لنا الجنرال، بل تقيمه لنا الألة الخفية بمؤخرة المسرح (تذكرونها؟) ليتم خلاله استكمال مشروع النهب العملاق لمصر أرضا وثروة وشعبا ومستقبلا، وما الجنرال إلا مبرر وسبب ، مهرج صغير تفرحه الأنوار والتصفيق يرمون وقود المديح الزائف على نيران هوسه وعبر هذا الهوس يستمر مخططهم بخطى ثابتة محكمه، ليضيق الحبل على أعناقنا جميعا.

مبارك عليك وعلى جوقتك (عرس البغل) يا عزيزي الجنرال الحنون .

الاثنين، 4 مايو 2015

رواية أحمد شوقي :حكايات الحُسن والحُزن أو مركب الضراير سارت ومركب السلايف غارت






حكايات الحُسن والحُزن

أو : مركب الضراير سارت ومركب السلايف غارت

- جملة أعتراضية-
واجهة الرواية هي نص ل (لوكليزيو)، هل تعرف من هو لوكليزيو؟ أنا لم اكن أعرف من هو لوكليزيو حتى استفتيت العم (جوجل) فأفتاني، وأنت عزيزي القارىء غالبا لم تعرف من هو لوكليزيو وأنا لن أقول لك من هو، أما الكاتب فهو يعرف،
(وانت لا تعرف، شفت أن الكاتب مثقف عنك ؟ أقرا بتواضع بقى، أنت طلعت ما تعرفش لوكليزيو وهو يعرفه

أول ما يلتقيك في الرواية هو (اللغة) ، فأحمد شوقي يتميز باللغة، واللغة هنا مقصود بها (الكلمات) ، يحوز أحمد الكثير من الكلمات- نعم نحن في هذه النقطة من القاع حيث (الحصيلة اللغوية) أصبحت من المميزات التي يتميز الكاتب لامتلاكها- وهو قادر على أن يصوغ هذه الكلمات في جمل شديدة الشاعرية ، بل ويقيم منها بناءا شاعريا كاملا، ، الحقيقة أن الفصل الأول من الرواية (مدخل) يكاد يكون نصا شعريا إلا قليلا، هذه الروح الشعرية تنتشر في الرواية كلها، ليس بشكل متساو، فاللغة ترتقي لتكون قلائد من الشاعرية النقية، لكنها أيضا تفقد تلك الشاعرية لتكتسب (عملية) ومباشرة لغة الصحافة المباشرة، تحتضن تلك الروح الشاعرية قدرة واضحة على بناء المواقف القصصية المدهشة ، ليلة الحب الرومانسية بصفحة، ( 27) ، وصفه الرائع لجسد رئيسة، تطوراته، تفاصيله، مشهد ولادة رئيسه ، ليلة جلوة سيدة، ، رحلة الطفل صالح مع عمه خامل، مشاهد غارقة في الشاعرية وخفة الدم – حكاية الشيخ معزه- والقدرة على إحكام البناء المشهدي ، القدرة على قص (حكاية)، ممتعه وكثيفه، بلغة تنتقل من الشاعرية الرفيعة للمباشرة الكاشفة في بساطة وليونة، كما ينتقل العازف المتمكن ما بين أوتار ألته دون أن ينظر لنوته أو يسترجع لحنا يحفظه، بل هو واثق من طوع ألته ﻷنامله، وأن كل تلامس ما بين أصابعة والأوتار لابد أتٍ بلحن جميل أو نغمة مدهشه، ذلك كاتب يمتلك ناصية اللغة ويجيد صياغة الجمل.


والحقيقة ان القارىء كلما أوغل في العمل تكشفت له ميزة أخرى من مميزات الكاتب، (الكرم) ، أحمد شوقي كاتب كريم، فهو يتعامل مع قرائه وكأن لسان حاله يقول : “ أنا مش حارمكوا من حاجه” ، فالرواية على صغر حجمها تعرض حشدا من تقنيات الكتابة، بدئا من حالة الحلم الشاعرية في صفحاتها الأولى، استلهام الحكاية الشعبية في قصة الشيخ معزه، حكايات السلايف وخلافاتهن، قصة الحب الرومانسية الناعمة ما بين سالم وإكرام – ذكرتني برواية شجرة اللبلاب لمحمد عبد الحليم عبد الله، الواقعية السحرية واستدعاء التراث الشعبي في العلاقة ما بين خامل وال (القط/ الروح)، وديالوجات ما بين الكاتب وما بين القط فتحي – بطل مجموعته القصصية القطط أيضا تعرف الرسم- وإسقاط للجدار الرابع حيث يتوجه الكاتب بالحديث مباشرة للقارىء معلنا انه الكاتب وأن تلك الشخوص من خلقه ومصيرهم بيديه، وحداويت الصراعات العائلية البسيطة وتطورات مصير القادمين من الريف ليحتلوا مكانا بالمدينة، مع مونولوجات خاصة بالمؤلف ، أحمد شوقي يقدم كل المائدة العامرة بكرم وأريحية، بل بزهو وخيلاء، أكاد أتخيله يسير متبخترا عبر صفحات روايته شاهرا قلمه كسيف ، وهو يتبختر عارضا كل ما قدمه للقارىء عبر صفحات الكتاب، كل تلك التقنيات المتعددة والتعقد الشديد لبنية القصة التي تدور حول نفسها وتعود وتذهب ثم تعود أدراجها لتسير نفس المسار مرة أخرى، وتعلو وتهبط، عبر أبواب عديدة وسلالم مربكة، لا تسلم قيادها بسهولة للقارىء الهاوي طيب السريرة – لن أقول ساذجا- فتتركه مبهور الأنفاس، متضعضعا، فيلهب كفيه تصفيقا لفارس الحلقة المتباهي بقلمه وبقدرته ككاتب متملك لناصية اللغة.


تحت هذه الطبقات السميكة من التضمينات والمونولوجات الوجودية النكهة والجمل الشاعرية و التماس مع الواقعية السحرية وتباهي الكاتب الذي لا يهاب أختراق الحائط الرابع مع قرائه متبسطا معهم ومتواضعا لهم، كل تلك الطبقات الفاخرة تخفي شيئا هشا بسيطا كما الحياة نفسها هشه وبسيطة، شيء له رائحة (الوتد) – المسلسل وليس الرواية، ولن أعيش في جلباب أبي – المسلسل ولا اعلم بوجود رواية-، مع عبير خفيف لا يكاد يمس إلا برقة بالغة وإلا فقدته للأبد من شجرة ، اللبلاب - الرواية أو الفيلم – ولو لا أريد أن احمل العمل طيش ذاكرتي لأشرت لنكهات روائية أخرى، لكن لنكتفي بالوتد ولن أعيش في جلباب أبي، تلك القصة البسيطة الرقيقة المحملة ببساطة العالم وتكراريته التي تسكن هذه الرواية المتباهية بقدراتها، تبدو كفلاحة بسيطة بريئة وطيبة يدفع بها لحضور ندوة عن (أنطولوجية السيميولوجي السردية في أعمال لوكليزيو)،


لكن هل ( حكايات الحُب والحُزن) مجرد رواية ؟

أرى أن العمل يتجاوز المنطقة البسيطة للرواية، تلك المنطقة التي نقف فيها نحن خلق الله البسطاء، لرحابة ( الكتابة عبر النوعية) – المجد لإدوار الخراط- فهي مزيج كثيف من النصوص الشاعرية، والمونولوجات الوجودية، والقصص القصيرة والحكايات الشعبية المعاد صياغتها، ، والأحلام ، والشخوص التي تظهر في قلب الحدث كأنما بفعل السحر، ثم يزيلها السحر من الحدث، هي ذلك البناء المعقد المركب لعمل يجمع ما بين القصة والنص والمونولوج وطبعا الوتد ولن أعيش في جلباب أبي، هي رقصة التباهي لقصاص يمتلك أدوات اللغة والشاعرية وبناء المشهد والقدرة الوصفية الرفيعة قرر أن يجمع كل أدواته بين دفتي كتاب ليكون....رواية








مدخل :
* يمكنك الا تقرأ هذا الجزء*

حكاية

يقال أنه في احدي القرى – قرية أية؟ ، أي قرية والسلام، قرية ما معلقة في الزمان والمكان- كان الناس قديما يبنون بيوتهم من الحجر والأسمنت وأحيانا من الطوب الأحمر والأسمنت، البعض كان يبني صروحا شاهقة تقوم على عمد من خرسانة غائرة في الأرض، والبعض كان يكتفي بصب السقف على جدران حاملة لبناء طابق أو طابقين، يقال أن الأزمنة طالت على القرية فنسى الناس البناء بالطوب والخرسانة، ويقال أن البنائين قد رحلوا منها جميعا لسبب مجهول، لكن لابد للناس من بيوت يأوون إليها، البعض أعترش من البوص والقش عرائش، آخرون صنعوا من الصفيح أعشاشا، والقلة خلطوا القش بالطين وصنعوا أشياء ما بين الأكوام والجحور، لكن أهل القرية جميعا أصبحوا بنائين ، وأستطال الزمن فدرست البيوت الحجرية الخرسانية القديمة، وتهدمت صروحها، وأفاض القرويون على الخرائب القديمة حكايات الجن والعفاريت، والسحرة والشياطين، وأسكنوا بها في خيالهم مردة وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وزادوا على سكانها أبو رجل مسلوخة ونداهه تشتهي لحم الرجال، فكانت البيوت الحجرية ملعونة ومشؤومة ومحرمة، وقيل أن من بنوها قوم منسيون ملعونون، ضربهم الله بغضبه، فدرست صروحهم، وحرمت فنونهم، وأصبح كل أهل القرية بنائين، بالقش والصفيح والتبن والتراب، يقال أنه حين تقدم الزمن بالقرية ظهر فيها رجل – رجل أيه؟ راجل وخلاص، رجل معلق في الزمان والمكان سقط من السماء منغرسا في أرض الحدوتة- ظهر ذلك الرجل في القرية ولعله من سكانها أصلا لكنه كان خاملا غير مرئيا حتى هذه اللحظة التي نحكي فيها حكايته، أعلن ذلك الرجل ذات صباح أنه سيبني بيتا بالطوب والخرسانة، بيتا كالصروح الدارسة القديمة، ولن يقنع ببيت من قش تغطي بابه الخرق، أو من طين وتبن تغطي فوهته حصيرة من البوص، بل سيبني صرحا عظيما من الطوب والأسمنت، يأتي له من المدينة – مدينة أية؟ أي مدينة، مدينة معلقة في الزمان والمكان على مبعدة من القرية- بأفضل الفواعلية والصناع ليعيد مجد الصروح الأسمنتية القديمة ، في ارض أختارها على طرف القرية- أي قرية لازم يكون لها طرف واحد ع الأقل يعني- وبعد زمن طويل عاد الرجل للقرية وأعلن للقرويين أنه قد أنتهي من بناء عمارته الفاخرة التي سيتقزم إلى

جانبها كل ما (يعكون) بالقش والصفيح والطين، وحين تبعه أهل القرية إلى حيث أقام عمارته الجديدة وقفوا منبهرين بجودة الصناعة وروعة الحرفية، أستعرض أمام أعينهم المندهشة الباب الحديدي الأنيق الزخارف الذي جعله للعمارة، وأبهر حسدهم بالأبواب الخشبية المزهوة بلمعان دهانها ودقة نقوشها، وضرب قلوبهم بالحسد بلمعان نقوش بلاطات السيراميك الفرز الأول، وأناقة قطع (أطقم الصحي) المتوافقة الألوان مع السيراميك، وشهقت حلوقهم حسرة على بختهم المنيل وهم يتأملون دقة (رصة) طوب الجدران ودقة المحارة وحرفية (النقاشة)، أحاطوا بهم جميعا وقد أذهلهم ما بناه …..

أستنوا كده، حلوه الحته اللي أنا كتبتها دي، حأكتبها تاني

وبعد زمن طويل عاد الرجل للقرية وأعلن للقرويين أنه قد أنتهي من بناء عمارته الفاخرة التي سيتقزم إلى جانبها كل ما (يعكون) بالقش والصفيح والطين، وحين تبعه أهل القرية إلى حيث أقام عمارته الجديدة وقفوا منبهرين بجودة الصناعة وروعة الحرفية، أستعرض أمام أعينهم المندهشة الباب الحديدي الأنيق الزخارف الذي جعله للعمارة، وأبهر حسدهم بالأبواب الخشبية المزهوة بلمعان دهانها ودقة نقوشها، وضرب قلوبهم بالحسد بلمعان نقوش بلاطات السيراميك الفرز الأول، وأناقة قطع (أطقم الصحي) المتوافقة الألوان مع السيراميك، وشهقت حلوقهم حسرة على بختهم المنيل وهم يتأملون دقة (رصة) طوب الجدران ودقة المحارة وحرفية (النقاشة)، أحاطوا بهم جميعا وقد أذهلهم ما بناه …..

وأخذوا يمدحونه ويقرظونه ، ويربتون على كتفيه في مزيج من الانبهار والحسد، فها هو يخرج من صلب البنائين بالقش والصفيح والتبن من يبني كالمردة القدامى بالطوب والخرسانة، و يخضع الأسمنت الجبار لرغباته، الجميع تحلقوا حوله رافعين أصواتهم بالتهنئة والتقريظ، رجل واحد بقى واقفا وحده، عم الخبيصي- من أين أتي؟ أتى من حيث أتي، سقط من السماء هو الأخر وسط الحكاية- ولتسميته حكاية، عم الخبيصي لم يكن أسمه عم الخبيصي، في البدء كان له أسم نسيه الناس، وتذكروا أهم صفاته أنه (خبيث)، ومع الوقت صار أسمه عم (الخبيث) ورققت العامية الثاء لتجعله عم الخبيس، ومع الزمن تفخمت السين العامية صادا، ولحقتها ياء النسب فصار عم الخبيصي- شفتوا بأعرف اعمل حدوته عميقه للأسماء أزاي؟!!- عم الخبيصي تقدم من الجمع الضاج، تأمل بهدوء ما عرضه لهم الرجل صاحب العمارة، ثم قال بصوت مرتفع اضمحلت أمامه أصواتهم كما يهدأ صخب العصافير باعتلاء صقر لكبد السماء: فين العمارة يا عم؟ دي بيبان ، أي نعم فخمه ومتقنه، وسيراميك أي نعم فرز أول، وحيطان أي نعم معموله كويس، لكن ما فيش عماره، دي كل حاجه مرصوصه جنب بعضها، أنت ما بنتش عمارة أصلا، فأصبح عم الخبيصي ملعونا وسط قرية البنائين الذين خرج من صلبهم مارد يبني بالطوب والأسمنت.













الخميس، 19 فبراير 2015

الجنرال يقف عاريا



غالبا لن نعرف أبدا ما كان يدور بذهن الجنرال عبد الفتاح السيسي وهو يأمر طائراته بقصف مدينة (درنه) الليبية ردا على الفيديو الذي نشره تنظيم (داعش) والذي يظهر ببشاعة ذبح 21 مواطنا مصريا على شاطىء يفترض انه شاطىء طرابلس الليبية، هل كان يتخيل انه إعادة بعث للكولونيل عبد الناصر الأب الروحي للفاشية العسكرية الشعبوية العربية؟ ام كان يتلبس شخصية أنور السادات العراب التاريخي للشوفينيه الوطنية المصرية الذي بدأ (حربا صغيرة) في 1977 ضد ليبيا بعد أنهيار العلاقات الدبلوماسية مع القذافي، يقدم لنا الإعلام المصري الموالي مطلقا للنظام العسكري أسطورته الخاصة التي لم يحسن فبركتها حتى، أسطورة القائد الذي غضب لقتل مواطنيه فشن الحرب على الإرهابيين الذين ذبحوهم، وأسطورة الجيش الجبار العظيم الذي يضرب بقوة ويبطش بأعداء الوطن، ثم يتدفق نهر البروباجندا العسكرتارية في فيضان لا ينتهي ويتم أستدعاء تراث الستينيات والسبعينات ونفخ رماد الشوفينية الوطنية فيتلظى نارا ترهب وتخيف كل من يجرؤ على التشكيك او حتى التساؤل، أسطورة تبدو تافهة خلقة ومهترئة وغير منطقية على ضوء سلوكيات ذلك الجنرال وسلوكيات قواته العسكرية طوال أربع سنوات من عمر الانتفاض الشعبي المصري في 25 يناير 2011، بل على ضوء سلوكيات النظام السياسي والعسكري الذي حكم مصر طوال العقود الأربع الماضية والذي السيسي أبنه الشرعي وممثله الحقيقي.

الجنرال نفسه كان منهمكا في بناء منصة إعلان بطولته بحماس يحسد عليه، دعم خليجي سعودي إماراتي كويتي لا يتزعزع، إعلان عن صفقة أسلحة فرنسية متنوعة باهظة الثمن بتعجل مريب في التسليم صنع منها الإعلام نصرا وفتحا أسطوريا، زيارة فلاديمير بوتين العبثية والتي يعتقد انها أتت لمحاولة إنقاذ صفقة الأسلحة الروسية التي استبدلت بالفرنسية، تلك الزيارة التي لم ينتج عنها سوى عشاء ببرج القاهرة ووعد مثير للسخريه بتقديم مفاعل نووي لمصر، وأطنان من البروباجندا الدعائية عن التحالف ما بين الجنرال المصري و (القيصر الروسي ) كما سماه الإعلام المصري، وعلى القمة كان قرار قصف (درنه) التي يقال أن السبب الوحيد في اختيارها انها تمثل اقصي مدى لطيران المقاتلات المصرية التي لا تمتلك وسائل تزويد للوقود جوا، بينما (سرت) حيث خطف المصريين المذبوحين ، و(طرابلس) حيث تمت جريمة القتل الجماعي خارج مدى الطائرات المصرية، ثم يتوج الجنرال مجده بطلب رسمي من مجلس الأمن لإقرار تدخل عسكري بليبيا، تدخل عسكري بشروط السيسي ولصالح الفصيل الذي يدعمه الجنرالات المصريين سرا وأصبحوا يدعمونه علنا، لحظة مجد نادرة، بقعة الضوء تتسلط على الجنرال القصير الشهير بلغته الحنونة وتعبيراته العاطفية الرومانتيكية والإعلام يعزف بهستيريا مارش المجد للجنرال وجيشه، ومواقع التواصل الاجتماعي تشتعل بالدعوات الهستيرية لمساندة الجيش المحارب ونسيان اي خلاف مع المؤسسة العسكرية وأي دماء سفكتها او سفكت بمباركتها.

مرة أخرى لا يمكننا إلا ان نتخيل ما شعر به الجنرال ومنصته المصنوعة من القش والورق الملون تتهاوى بسهولة ويسقط من فوقها مجده المفترض، تأتي الضربة الأولي ببيان مشترك يسبق أجتماع مجلس الأمن بيوم واحد، حكومات الولايات المتحدة ,وانجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا تصدر بيانا يحض على أيجاد حل سياسي لا عسكري بليبيا ويحذر ضمنيا كل من يهدد أستقرار ليبيا وإمكانيات الحل السياسي، لا احد يريد ان يرقص على طبول الجنرال الحنون، وحتى لو قرر الغرب تدخلا عسكريا فلن يكون السيسي هو المايسترو وضابط أيقاع ذلك التدخل، وتأتي الضربة الثانية من المجموعة العربية بمجلس الأمن التي اقترحت قرارا يخلو من دعم تدخل عسكري بليبيا بعد ان كانت خارجية السيسي تروج قبلها بساعات ﻷن المجموعة العربية تدعم السيسي في تدخله العسكري، حتى جنرالات الجزائر تخلو عن السيسي ورفضوا التدخل العسكري.
وتأتي الضربة الثالثة من أقرب حلفاء الجنرال السيسي وعرابيه (مجلس التعاون الخليجي)الذين يصدرون بيانا على موقعهم الرسمي يرفض بحدة غير معتادة اتهام مصر لقطر بدعم الإرهاب ، ويكاد يقرع السيسي على اتهاماته واصما إياه بوضوح بأنه يعيق العمل العربي المشترك ويرفض البيان التدخل العسكري بليبيا، صحيح أن نفس الموقع الرسمي أصدر بعد اقل من 12 ساعة بيانا يكذب فيه البيان الاول ويؤكد على دعم مشيخات الخليج لنظام السيسي، لكن الرسالة قد وصلت فعلا، ويرقد البيانين المكذب والتكذيب جنبا لجنب على موقع مجلس التعاون، معروضين لمين يريد ان يحاول فك طلاسم أسرار السياسية الخليجية.
كل ذلك لم يكن كافيا، فالمصائب لا تأتى فرادى، فالجنرال الليبي خليفة حفتر يتحفنا بتصريح نقلته عنه جريدة الفجر القاهرية بأن السيسي قدم له الدعم الكامل في عملية (الكرامة) التي يشنها للسيطرة على بني غازي، إذا ألم تكن تلك الطلعات الجوية العنترية انتقاما لمقتل 21 عاملا مصريا ذبحا في ليبيا على يد (داعش)؟!!

بمهزلة مأساوية تنتهي لحظة الجنرال العاطفي تحت أضواء المجد الزائف، وينفض عنه حلفائه وداعموه، وتنتهي مغامرته العسكرية الصغيرة بتوقف يشبه السكتة القلبية، لكن المأساة الحقيقية التي غرقت في طوفان (المولد) الإعلامي هي مأساة ال 21 قتيلا، مأساة مليون ونصف مصري اضطرتهم الظروف الاقتصادية بمصر تحت حكم العسكر للنزوح لبلد تحترق بنار الحرب الأهلية، مأساة مئات الآلاف من المصريين الذين وضعوا ما بين القتل في أوطانهم على يد جيش السيسي سواء بطلقة أو جوعا وفقرا أو القتل في الغربة على يد عصابات داعش، هؤلاء سينسى أمرهم مع الوقت، وسريعا كما نسي أمز ألاف غيرهم من الفقراء والكادحين ماتوا فقرا أو مرضا أو غرقا أو حرقا، انتهت لحظة مجد الجنرال الوجيزة، وعليه ان يقنع بما يشغله من أمور اقل لمعانا من حرب وطنية أنتقامية وإن كانت اكثر خطورة كانهيار الاقتصاد وتهالك العملة المحلية، وارتفاع الأسعار، وتأكل الدعم الشعبي لنظامه، ومشروع قناته الخرافية الجديدة....إلخ

الجنرال عاد مرة أخرى لحجمه الحقيقي، قزم سياسي غارق في مشاكل لا يمكنه حلها
الجنرال يقف عاريا وكل أشجار التوت في العالم لا يمكنها ستر سؤته.

الثلاثاء، 17 فبراير 2015

يسقط..يسقط...حكم العسكر.

يسقط يسقط حكم العسكر،
 ارتفعت الهتافات مشتعلة من الغضب من الحناجر 
المبحوحة بالغيظ والحزن،
الشعب..يريد إسقاط النظام، ارتفع الهتاف متحديا راغبا في الصدام، التاريخ 25 يناير ، المكان : أمام مقابر (المنارة) بالإسكندرية، لكن تلك لم تكن 25 يناير 2011، كانت 25 يناير أخرى، جاءت في ظل انقلاب عسكري دموي ، جاءت ونحن لا نذرع الشوارع بالآلاف معلنين ملكيتنا لها، بل جاءت ونحن نودع جثمان (شيماء الصباغ)، كم فعلنا في 2011 ونحن نودع ضحايا أنتفاضة يناير، شيماء الصباغ الشاعرة والام الشابة، والناشطة السياسية التي لم تخلو من سذاجة وارتباك سياسيين لا تلام عليهما وهي النقية القلب لدرجة الطفولية، فأنى لها الوعي وكبار الأحزاب والحركات السياسية التي نشطت وسطهم يفتقدون لأي وعي سياسي او نضالي، فهم خشب مسندة وبقايا حفرية من أزمنة بائدة، أزمنة ما قبل يناير 2011، شيماء الصباغ هي نموذج لجيل كامل من الشباب كان عليه ان يكتسب الوعي السياسي في الشارع وسط انتفاضة شعبية أغرقت في ألاعيب السياسيين الانتهازيين والإعلاميين المخابراتيين والمثقفين الذين لا يتفوق على جهلهم إلا عمالتهم لأجهزة الأمن، فجاء وعيهم مبتسرا ناقصا لم يكتمل نموه، عقيما غير قادر على منحهم بوصلة للحركة وسط كل هذا الضباب من الأكاذيب والألاعيب، كان الهتاف يعلو مرة أخرى : الشعب يريد إسقاط النظام، يسقط يسقط حكم العسكر، كان الشباب يهتفون مرة أخرى هتافاتهم المقدسة التي مات المئات صارخين بها، ما بين 30 يونيو 2013 وما بين 25 يناير 2015 جرت مياه كثيرة تحت الجسور، مياه مخلوطة بالدماء والأشلاء ورماد الجثث المحترقة غالبا، لم نعد بقادرين على الهتاف بسقوط حكم العسكر رغم انه أزداد وطأة وبشاعة ووضوحا، فالعسكر هم من انقذوا مصر من الإرهاب الإخواني بعد تحالف أستمر منذ يناير 2011 أكتشف العسكر ان الأخوان إرهابيون خطرون فانقلبوا عليهم ، وأسسوا ﻷسطورة الجيش الذي حمى مصر من الضياع ، وقائدة الذي كان على موعده مع القدر لينقذ مصر من الخراب، وهو الذي كان معدودا على الأخوان قبل أنقلابه بأسابيع قليلة.

لكن كل أكاذيب الإعلام وكل هلوسة الصحف المخابراتية لم تكن كافية لتوارى سوأة النظام ، الذي فشل فشلا ذريعا في التعامل مع كل الملفات التي برر أنقلابه بفشل مرسي الإخواني فيها، فلا ازدهار اقتصادي ولا حل لمشكلة الطاقة ولا أستقرار امني ولا سيطرة على المناطق المشتعلة في سيناء، مع عودة آل مبارك للصدارة وتهديدهم نصف الصريح بأن البرلمان القادم ،

سيكون تحت سيطرتهم، وان كبار رجال الأعمال المدنيين لن يقبلوا بموقع التابع لرجال الاعمال الجنرالات

يسقط يسقط حكم العسكر ، يسقط يسقط حكم المجازر، بدئا بمجزرة رابعه والنهضة والحرس الجمهوري، والمجازر الأسبوعية للمسيرات التي يدعوا لها الأخوان ومرورا بمجازر الطلبة والطالبات في كل جامعة بجامعات مصر، ومجازر الجنود الذين سقطوا عزلا عاجزين كالقطيطات الوليدة بلا سلاح في مواقعهم العسكرية بسيناء رغم الميزانيات الخرافية التي من المفترض انها تنفق على التسليح والتدريب ، وصولا لمذبحةاستاد الدفاع الجوي في 8 فبراير الحالي حين تعمدت قوات الداخلية حصر مشجعي نادي الزمالك في ممر ضيق كالقفص وأغرقتهم بالغاز السام والخرطوش لتقتل 22 منهم أطفال وشيوخ في فعل هستيري غير مبرر إلا كانتقام من ( الألتراس) الذين هم صداع دائم في رأس قوات الداخلية ورئيس النادي المقرب من النظام، كان الغضب بعدها في قمته، مرة اخرى ينفتح القمقم لعفريت : يسقط يسقط حكم العسكر، صديق يحدثني عن أغنية شعبيه (مهرجان) تغني الهتاف الداعي لإسقاط حكم العسكر، ها هي تقترب، شعاع ضئيل من الضوء في الظلام الدامس الجاثم على صدورنا ، نحن الذين نحمل في صدورنا نار سيد الهتاف : يسقط يسقط حكم العسكر ، النظام يخسر شعبيته شيئا فشيئا، زعيمه المضحك في قراقوزية خطاباته وتعبيراته و(تسريباته) تحول لمادة للسخريه بعد زيارة بوتين لمصر وصفقة (الرافال) التي لم يشترها احد طوال 20 عاما، فأتى السيسي (ليشتري التورماي) .

يسقط يسقط حكم العسكر

حتى إذا ضاقت الارض على السيسي وجنوده على سعتها، وبلغت ارواحهم الحلوق ، جاء الفرج من حيث لا يحتسب أحد
فأذاعت (داعش) فيديو لذبح 21 مصريا ، فقامت قيامة النظام وغضب رئيسه لدماء المصريين المهدره، وأخرج نسوره لتنتقم للمصريين المغدورين، وفتح النظام صناديق ملابس وديكور مسرحيات الحقبة الناصرية والساداتية نافضا عنها عفن القدم والنسيان ليعرضها أمامنا محضرا روح تلك الأيام البعيدة المملؤة بقداسة الجيش البطل المصطف شعبه خلفه تحت حكم زعيمه الملهم ليرد العدوان عن مصر المقدسه، فكان علينا لكي نحمل صك الوطنية الأقدس وختمها على أقفيتنا أن نقتل المنطق ونذبح الذاكره، ونصدق ان النظام أنتفض لمقتل 21 مصريا في ليبيا، بينما دماء 22 مصريا لم تجف بعد في القاهره لم يسأل عنها احد ، علينا لكي ننحط لمستوى وطنية البرجوازيين الشوفينية تصديق أن الجيش ينتقم غاضبا لمقتل 21 مصريا في ليبيا، نفس الجيش الذي قضى السنوات الأربع الماضية يعتقل المصريين ويقتلهم ويضربهم ويشوههم وينتهك أعراضهم ويمثل بجثثهم ويتبول جنوده على متظاهريهم، ويسخر من رموزهم وقيمهم وأحلامهم وشهدائهم، نفس ذلك الجيش يخرج لينتقم لهم، ينتقم للمصريين المسيحيين الذين قتل منهم نفس هذا الجيش ما يقارب 35 متظاهرا دهشا ورميا بالرصاص في قلب القاهرة في أكتوبر 2011 ، نفس هذا الجيش الغاضب للمصريين المغدورين على أيدي سفاحين( داعش) هو الذي قتل وأحرق ومثل بجثث المئات من المصريين في أعتصامي النهضة ورابعة وقبلهما في أحداث الحرس الجمهوري واحداث رئاسة الوزراء ومذبحة شارع محمد محمود …..إلخ من قائمة الدم الطويلة، نفس هذا الجيش هو الذي قتلت داخليته شيماء الصباغ بدم بارد وسط القاهرة كما قتلت قبلها وبعدها المئات من المتظاهرين العزل في كل مدن مصر، نفس ذلك الجيش الذي أجرى دماء المصريين أنهارا يغضب لتدفق دماء المصريين على يد (داعش) فيخرج لينتقم في عملية عدوانية على شعب جار وشقيق ، مصدرا لنا أكاذيب إعلامه وصحافته فيموت في صدورنا هتاف:
يسقط يسقط حكم العسكر ،
فقدوس هو الجيش الذي ينتقم منا غالبا ولنا أحيانا، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، لا مقتل شيماء ولا المئات من أمثالها، ولا الفقر والجوع ولا الفساد والخراب ولا الديكتاتورية والطغيان العسكري، كلها تتراجع بعيدا في خلفية المشهد، وفي المقدمة الجنرال الحنون رافعا سيفه هاتفا : الثأر لشهدائنا الذين قتلتهم داعش
وماذا عن من قتلتهم انت وجنودك؟
من يجرؤ على هذا السؤال؟؟ فهو يخرجك من الوطنية للخيانة ، ومن النور للظلام
فقدوس هو الجيش وقدوس هو زعيمه
وهدر هي دمائنا وعبث هم شهدائنا
فلا صوت يعلو على صوت المعركة
اتركوا عقولكم على بوابات الوطنية، فلا مكان بها لعاقل ولا لصاحب ذاكرة لا تنسى
أهتفوا بأسم الوطن، بأسم الجيش، بأسم الزعيم، بأسم الحرب

لا، ليست حربنا، وليس جيشنا، وليس رئيسنا، ولا باسمنا، ولا برضانا ولا بأمرنا
يسقط يسقط حكم العسكر، لن نخون الثورة، ولن نخون من ماتوا هاتفين بها، ولن نخون الوطن بأن نقبل تمريغ أسمه في مؤامرتكم مع صنيعتكم حفتر
الموت للقتلة والخونة وسافكين الدم.
المجد للثورة وللكادحين وللصامدين على قناعاتهم


الاثنين، 3 نوفمبر 2014

رواية باب الليل- انطباعات


أبواب وحيد الطويلة
رواية باب الليل
أنطباعات

مدخل: قال السورياليون أن الطريقة الشرعية الوحيدة لنقد عمل إبداعي هي صياغة عمل إبداعي مواز.

أكره الكتابات النقدية التي تمسك بعنق (حدوته) الرواية فتفشي أسرارها وتمزق أستارها، ولا تبقي لي كقارىء لم اطلع بعد على العمل الروائي سوى بقايا ميته لحكاية مفضوضة الأسرار، لكنك لا تستطيع أن تفعل ذلك برواية (باب الليل)، ببساطة لا يمكنك أن (تحرق) الحدوته فيها كيفما فعلت، إلا لو سردتها كاملة من أول سطر ﻷخر سطر، وصفها صديق مشترك بأنها : تحكي عن مصير المنفيين الفلسطينيين بتونس، يشبه ذلك أن تصف المحيط بأنه : شوية ميه مالحه.

باب الليل في الحقيقة هي رحله، بل هي الرحلة ذات نفسها، فلا أهمية ﻷين ستأخذك، إنها المسير نفسه لا ما تسير إليه، تترك باب الليل بروايتك انت عنها، بحكايتك انت التي تحكيها وانت تسير عبر الأبواب المتعددة، أيها تختار أن تطيل الوقوف عنده أو الجلوس أمامه، وأيها تختار المروق السريع عبره، لك أن تختار الأبواب التي تشاء لتكون بواباتك انت، هي حكاية المنفيين الفلسطينيين في تونس، وهي حكاية الطبقة البرجوازية المدينية بجنوب المتوسط، وهي حكاية بنات الليل، وهي حكاية المقهى بناسه، وهي حكاية المبدع العاشق بلا أمل، كأن (باب الليل) إعادة اكتشاف لفن الحكي الأصل باللغة العربية (ألف ليله وليله) حيث الحكاية تلد الحكايات وتتقاطع معها وتتواصل وتشير دون إفصاح وتلمح قدر ما تبسط، هو عالم كامل مبني بكليته من الحكايات، بعضها يكتمل أمامك، بعضها يبدأ فلا ترى نهايته، وبعضها تنهيه ولا تدرك بدايته، لكنك تخلق منها جميعا حكايتك أنت الخاصة.

(كل شيء يحدث بالحمام،
حمام المقهى بالطبع).

هكذا تبدأ الرواية، وهكذا تفتح الباب الأول : باب البنات.
هذا كاتب يقدم (خطاب نوايا) قوي منذ الجملة الأولي، يهاجم بقوة وبجراءة وذراعين مفتوحين، يعدك برواية تتدفق كالنهر الجبلي في موسم فيضانه فلا تلكوء عند مقدمات رخوة لتحضير القارىء، ولا تراخي في مخاضات ضحله يعيق تدفق النهر فيها تأملات فلسفية تسكن جملا مطاطه ثقيلة الظل، ستأخذك الرواية في تدفقها الخاطف للأنفاس عبر خمس عشرة بابا لتترك مشبعا حتى العظام بها، بروائحها، ألوانها، بشرها، ضوئها، نسائها، رجالها.

(كل شيء يحدث بالحمام،
حمام المقهى بالطبع).

هكذا، بلا مقدمات، كأنه دخول لمطعم شرقي، تفتح الباب فتكتسحك موجة الروائح الحريفة بكل قوتها، فإما أن تكون من عشاق التوابل الحريفة والنكهات العنيفة وإما أن تخرج مغلقا الباب على الفور وتتناول عشاءا من سندويتشات ماكدونالدز البلاستيكية، فهذا مكان للذواقه فقط.
المقهى، كل شيء هو المقهى، هو المرأة التي ينعكس فيها كل شيء، فلا وجود للعالم إلا بقدر ما تنعكس صورته على المقهى، لا وجود للبشر إلا بقدر ما تلقيهم مصائرهم داخل المقهى.

أو لم تخلق المقاهي إلا لهذا؟

أعترف أنني قارىء عدواني، فأنا لا أسلم عقلي للكاتب أبدا، ولا اقبل (مؤامرة) الحكي بسهوله، ابقي متيقظا دائما، متربصا تقريبا، أتحين أخطائه وأتصيد هفواته، الرواية تتفجر وصفا، وصفا يصل لدرجة الشبق بالتفاصيل، تفاصيل البشر، تفاصيل الحركة، الأفعال، الكلمات، وصفا يكاد يصرخ من الحسرة ﻷنه لا يستطيع أن يحول الكلمات لماده، للحم ودم يتنفس ويُلمس
لكن...أين المقهى؟
أين وصف المقهى؟ وهو البطل الرئيسي المحوري، وهو المرأة التي ينعكس عليها العالم، كيف فاته أن يصفه؟ تلك خطيئة لا تغتفر، أمسكت به أخيرا (بابتسامة أنتصار شريره).

في مكان ما بصفحة 82 من الرواية، لابد أنني انفجرت ضاحكا وقد اكتشفت أنني وقعت بفخ الكاتب  بدلا من أن يقع هو بفخي، بداية علي أن احدد كيف تشبه (باب الليل)، إنها تشبه لوحات سقف كنيسة سيستين لمايكل أنجلو، في ذلك العمل الملحمي الأسطوري الأبعاد لا وجود لشيء تقريبا سوى للأجساد البشرية، لا أثاث ولا ديكور ولا حيوانات ولا أشجار ولا مباني، حتى الملابس لا توجد إلا كامتداد للبشر ، هكذا هي (باب الليل) عالم مخلوق كله من البشر، وعليه لا يمكن أن نرى المقهى إلا عبر البشر، عبر (سفيان)، عشق سفيان الخائب ل (دره)، المقهى كمبنى هو سفيان ودره، بل هو المعادل المعماري لجسد (دره) هكذا جعله سفيان، المقهى نفسه بكل تفاصيله المعمارية هو جسد امرأه وإن كان من حجر، هنا نأتي للأيروتيكيه، أيروتيكية (وحيد الطويلة) الخاصة ، ذلك الاحتفاء باحتشاد الجسد الأنثوي، الجسد قائم بذاته وفي ذاته، بكل تفاصيل ممكنه، بكل تنوع محتمل، جسد مترع ، وحشي، مراوغ، غاو، عصي ومستباح معا، وإن كنا نرى العصيان ماثلا والاستباحة مفترضه، فهو لا يستباح أمامنا أبدا، يبقى ممجدا ، ساميا، كأنهن كاهنات عشتار ، أمازونيات الجنس اللواتي يخضعن الرجال ولا يخضعن لهن، حتى الأجساد، كلها قويه، عفيه، متوهجه، بريه، مثيره، مشتهاه، لا جسد سقيم أو باهت أو مترهل...سوى أجساد الرجال، أجساد هؤلاء المتروكين، المناضلين القدامى المنفيين في (ديسابورا) المقاهي التونسية، أﻷوديسيين الجدد العاجزين عن الإبحار لشواطئهم، تبقى حكايتهم اللحن الأساسي للرواية، لا تغيب ولا تندثر، هي المدخل تقريبا لكل باب أو المخرج منه، هذا المصير الشبيه بمأساة أغريقيه، يمنح الرواية نكهة شجن والم لا يمكن تجاهلهما، شجن والم ينعكس على كل الأشياء، حتى على الأجساد الشبقية العفية، فهذه ليست جنة الخلد ولا هن حوريات، هذه منطقة منسية في مكان ما بين الفردوس والجحيم، (مطهر) منسي لا فكاك منه ولا رحيل، مهما تخيل قاطنوه الخروج والرحيل، هذا هو نهاية الدرب، فلا مخرج، لا شيء عظيم يحدث هاهنا، ولا حدث مفارق، هو الشرق الأوسط، حيث كل شيء باهت ورمادي وفاتر تحت الغلاف المبدئي اللامع الألوان والموحي بالحرارة، حتى (ثورة تونس) لا تنعكس سوى كظل باهت بارد على المقهى، وبالتحديد (في الحمام) حيث تستقر صور الزعيم المخلوع ببساطة ودون دراما كبيره، مجرد صورة مكسورة منسية بانتظار إصلاح لن يحدث أبدا، انعكاس بارد وباهت، لحدث بارد وباهت تم تحميله فوق ما يستحق تاريخيا وفعليا، نهاية غير متفائله، لكنها ليست محبطة ولا مهزومه، فلا هزيمة ولا إحباط بالمقهى، فهاهنا لا شىء سوى دوران عجلة الحياه التي لا تعبأ بشىء ولا تهدف لشىء سوى أن تدور وتستمر.

في حكاية من حكايات ألف ليلة وليله تترك بنات الجن البطل في القصر ذو المئة باب، مانحات إياه كل المفاتيح، مع تحذير انه مسموح له بفتح 99 بابا فقط، ومحرم عليه الباب المئة، (باب الليل) هي هذا القصر المسحور، لكن بلا أبواب محرمه، الهم إلا أبواب القارىء الذي عليه أن يتعلم فتحها وهو يمر عبر أبواب وحيد الطويلة.

الخميس، 23 أكتوبر 2014

جمرج.....قصه



(قصــه)



رنين هاتف المنزل في الصباح المبكر، ليس بالأمر المعتاد، نذير شؤم دائما، من سيتصل بي على هاتف المنزل في مثل هذا الصباح المبكر؟ من يعرف أصلا رقم هاتف المنزل؟ نذير شؤم حقيقي، ارتبط عندي بإبلاغي أنباء المصائب العائلية، قريب نقل للمستشفى في حالة خطره، أو قريب وافته المنية،قررت تجاهله والعودة للنوم، لكنه أستمر في الإلحاح، استجمعت شجاعتي ونهضت لتلقي النبأ المشؤوم في هذا الصباح الذي لا يبدو مبشرا أبدا.
  • ألو، أيوه
صوت خروشه على الناحية الأخرى وخلفية صوت شارع
  • ألو، ايوه، مين؟
  • ألو، ايوه ، أستاذ ياسر معايا؟ مش كده؟، صباح الخير
صوت رجالي نحيل متحشرج لا اعرفه، طريقة الحديث الرسمية وضعت جانبا احتمال انه قريب يتصل ليبلغني عن مصيبة حلت بقريب أخر، وصباح الخير المعتذرة المتلعثمة لغت أحتمالية الاتصال من جهة رسميه
  • أيوه،أنا ياسر، مين حضرتك؟
  • سعال ، حضرتك أكيد مش فاكرني، احنا ما اتقابلناش من سنين طويله للأسف، بس عندي أمل تفتكرني، كان ليا شرف أني أزورك في مرسمك في العجمي زمان، وسهرنا تقرا لي مسودة عمل كنت بتكتب فيه، كنت انأ وعاطف الله يرحمه، افتكرتني حضرتك؟
من ركام الملفات القدمية المنسية بقعر ذاكرتي قفز وجه أسمر نحيل تغطي نصفه العلوي نظارة سميكة الزجاج، ونصفه السفلي شارب يتدلى مسترخيا تصل ذؤابتاه لطرف الذقن المستدقة المدببة، سعيد عثمان
  • أيوه أنا افتكرتك...أنت...
قاطعني بصوت مذعور: أرجوك ما تنطقش أسمي ع التليفون، كفاية انك افتكرتني، أنا مش حأقدر أطول في الكلام، ممكن نتقابل؟
تعجبت من خوفه من ذكر اسمه، لكن على ما أذكر كان سعيد عثمان شخصا غريب الأطوار، لكن بطريقة محببة ظريفه، ولعل السنوات الطويلة قد زادت أطواره غرابه
  • قوي، قوي ، ممكن نتقابل النهارده بالليل، نشوف نتقابل فين؟
  • الحقيقة أنا أفضل نتقابل كمان نص ساعه
امسكت بالموبايل الموضوع على دولاب التحف إلى جانب الهاتف الأرضي، ضغطت على زر تشغيله ونظرت للساعة
انت عارف الساعة كام دلوقتي؟ الساعة سته ونص، سته ونص الصبح
  • أيوه، أنا عارف، وأسف جدا على أيقاظك مبكرا هكذا، اعرف انك مخلوق ليلي تحب السهر وتستيقظ متأخرا، لكن أرجوك الموضوع مهم جدا ولا يحتمل التأجيل
  • أيوه، بس أنا محتاج اكتر من نص ساعه عشان استعد للخروج
  • أرجوك، السرعة مهمه قوي، مافيش وقت،
تحول صوت لما يشبه الفحيح: المسألة مسألة حياه أو موت، أرحوك
نصف ساعه فقط؟ اللعنة، على أن أفطر وأشرب قهوتي واستخدم الحمام وارتدي ملابسي في نصف ساعه؟! أنا عادة احتاج ساعتين ما بين الاستيقاظ والخروج من المنزل، ساعتين على الأقل، لكن فضولي تغلب أكتسح كل شيء أخر
  • ماشي ، كمان نص ساعه، فين؟
  • محطة مصر، أمام السنترال، نصف ساعه بالضبط، أرجوك لا تتأخر.
  • طيب خد نمرة موبايلي وهات نمرة موبايلك عشان نسهل اللقاء
  • الحقيقة أنا مامعييش موبايل، ما بأشيلهوش من زمان.
  • ماشي، حأقابلك
سخيفة هي الصباحات التي تبدأ هكذا، أضع براد الشاي على النار، وارتدي ملابس بينما تغلي المياه، اشرب الشاي بالحليب مع السيجارة الأولى في المطبخ بينما أصنع القهوة، وليعترض قولوني كيف شاء، ألقيت نظرة سريعه على زوجتي وطفلي النائمين بعمق، فتحت باب الشقة وخرجت.

ميدان محطة مصر الذي لم يستيقظ تماما بعد، وهو الذي لا ينام تماما أبدا، سيارات النقل بالنفر المتجه للقاهره تقف ناعسه كسائقيها الذين ينادون ( مصر ، مصرن نفرين مصر) بينما عرباتهم تقريبا ما عدا أنفار قليلة يسافرون القاهرة في هذا الصباح المبكر، انتبهت إلى أن اليوم هو الجمعة، لذلك تبدو التو رمايات خاوية من زحام الطلاب، كل شيء هادى ء ونصف ناعس مثلي، عبرت حديقة المحطة، مررت وسط (ميكروبا صات) العامريه الخاوية، عبرت شارع الخديوي الذي بدأ يمتلأ بالذاهبين إلى (سوق الطيور) الأسبوعي الذي ينعقد بجانب سور (الدونبسكو) كل جمعه، يحملون أسبتة العصافير والحمام، بضع مراهقين مريبين المظهر يجرون كلابا ضخمة مختلطة السلالة ليعرضوها للبيع في السوق، وقفت أمام باب السنترال، نظرت لساعة الموبايل : السابعة وخمس دقائق، لم أتأخر، إذا أين هو سعيد عثمان؟
ما زال الصباح في بدايته، لكن شمس أغسطس لا رحمة لديها ولا شفقه، ولا شبر ظل أمام مبنى نتجالسن يحميني منها، بعد ثلث ساعه كنت قد أطفأت سيجارتي الثالثة وأحسست بالعرق يتصبب عبر جسمي كله، بينما قولوني يصرخ غاضبا لحرمانه من راحته الضباحية الإجبارية، ألقيت السيجارة بغضب وبصوت خافت لعنت سعيد عثمان ويوم عرفته، ولعنت سذاجة إنني وافقت على لقائه في هذه الساعة السخيفة، أخذت طريقي عائدا للبيت، وبينما أعبر الشارع العريض ما بين السنترال وحديقة الشهداء حاذرا من (الميكروباصات) و(التونايات) و(الاتوبيسات) التي تنطلق عبره بجنون الابتهاج بخواء الطريق، أحسست بيد باردة تمسك ذراعي العرقة بحركة متسلله، جفلت والتفت لجانبي كان الممسك بي يرتدي (سويت شيرت) بقلنسوة رافعا إياها مغطيا بها وجهه، الغريب أن أول ما خطر ببالي :لماذا يرتدي هذا المجنون ملابس ثقيلة في هذا الصباح الأغسطسي الحار؟ لا أراديا سحبت ذراعي وأنا أقفز بعيد عنه، لكن يده بقيت قابضة على كوعي بإصرار، رفع وجهه نحوي قائلا: صباح الخير يا أستاذ ياسر

كان سعيد عثمان.

الوجه النحيل أزداد نحولا وكسته صفرة داكنه، النظارة زاد سمك عدساتها، والشارب المتدلي أزداد تدليلا على الذقن المدببة التي يغطيها شعر خشن متناثر، لكنه هو سعيد عثمان كما أتذكره منذ أكثر من سبعة عشرة عاما، كان يبدو عجوزا جدا رغم انه يصغرني ببضع سنوات

أهلا يا سعيد، أزيك؟ عاش من شافك؟ اـاخرت عليا
معلش، أنا أسف، تعالى نتحرك من هنا.
صوت كان يبدو متوترا ومرتعشا، شبك ذراع بذراعي ودار عائدا نحو مبنى السنترال، عبر من جانبه متجها نحو شارع كينج عثمان، لم يقل كلمة واحدة طوال الطريق، كان يسير بسرعة ويتلفت حوله بتوتر
رايحين فين؟
حنقعد في حته هنا قريب
قبل أن نصل ل(كبده الفلاح) أنحرف يسارا، المقهى الصغير الذي يفرش طاولاته في شارع نصف مسدود كان قد أستيقظ للتو، وبدأ القهوجي في توصيل (الطلبات السوقي) للمحلات المحيطة به، صبي نحيل كان يقف مهويا على الفحم الذي لم يشتعل بعد مضيفا إليه حفنا سوداء من جوال نصف ممتلئ، جلسنا على طاولة إلى جانب الحائط، جلس سعيد منحنيا واضعا يده على يسار صدره وهو يلهث في إجهاد من ركض ماراثونا طويلا.
اللعنة، هل أتصل بي مبكرا هذا الصباح الملعون لأكون شاهدا على أصابته بأزمة قلبيه؟
هل أنت بخير يا سعيد؟
ألتفت نحوي واضعا أصابعه النحيلة على الطاولة التي بيننا، كان ما زال يلهث بشكل مؤلم، لاحت على وجهه أبتسامة امتنان باهتة: أعتذر عن إزعاجك مبكرا، وأعتذر عن التأخر في الميعاد، الحقيقة إنني حضرت في الموعد تماما، لكنني بقيت بعيد لأتأكد أن أحدا لم يتبعك وأننا لسنا مراقبين، كانت كلماته تزاحم اللهاث وهي تخرج من فمه الذي لاحظت انه يفتقد للعديد من الأسنان
  • يتبعنا؟!! مراقبين؟!! عن من تتحدث؟ هل تتابعك الشرطة يا سعيد؟؟
  • ليست الشرطة، امنحني دقائق التقط انقاسي وسأحكي لك كل شيء
أشرت للقهوجي الذي لم يبدو متحمسا لخدمة زبونين مبكرين، حتى لو كان صباحه خاملا وأغلب المحلات والورش لن تفتح إلا بعد صلاة الظهر، طلبت فهوة ساده وحجر معسل، سعيد طلب فهوة كراميللا، وبدا على شفتيه شبح أبتسامه: أتذكر كيف كنت تسخر من فرط السكر بقهوتي؟ وتقول أن السكر إهانة للبن؟ ما زلت تشربها ساده؟
فهوة؟!! عن أي فهوة تتحدث يا سعيد؟ ما موضوع المراقبة؟ من يراقبك؟ ولماذا تبدو خائفا مرتبكا لهذه الدرجة؟
أي مصيبة ارتكبت يا سعيد؟ أنت هربان من الحكومة؟
أنكمش سعيد في كرسيه، سحب طرف القلنسوة ليخفي جانب وجهه
أولا ممكن رجاء؟ لو تكرمت افصل بطارية الموبايل، انت عارف انه ممكن يستخدم كجهاز للتنصت، أرجوك، تحملني، معلش.
كان الضيق قد بلغ بي مداه، وتقلصات قولوني وصلت لمرحلة الحرب الأهلية المعوية، لكن فضولي سيطر مرة أخرى، ونظرة الرجاء في عينيه المجللتين بسواد عميق دفعتني لأخراج الموبايل من جيبي وفصل بطاريته.
ها هو يا سعيد، فصلت البطارية، ماذا عندك؟
أتى القهوجي بالطلبات، وضعت المبسم بين شفتي وأخذت أسحب الأنفاس الأولى من الشيشة، كان لها تأثير مهدى يشبه (التنميل) على عقلي، أخرج سعيد من جيب (السويت شيرت) علبة سجائر صينيه مدعوكة، أخرج سيجارة منحنيه وأشعلها وسحب أنفاسا متتالية بشراهة وهو يجترع رشفات متلهفة من كوب القهوة

حسنا يا سعيد، ما الموضوع؟ من يطاردك؟ ممن تخاف؟ الحكومة؟ المخابرات؟
وضع كوب القهوة وقرب وجهه مني وقال وهو يلعق شفتيه اليابستين بصوت كالفحيح : أنا اهرب من( جمرج)
ألتفت له لأتأكد مما نطق به، كانت عيناه غائرتين في السواد ترتعشان بالرعب، بينما وجهه يخيم عليه شحوب الموتى.
أي حماقه؟!! أرتفع الدم لرأسي
الجمرك يا سعيد؟ هربان من الجمرك؟ أيه الاشتغاله دي؟!! حد بيخاف من الجمرك؟؟!!
أطبق كفيه المعروقتين على ذراعي المستند على الطاولة
ليس الجمرك يا أستاذ ياسر، جمرج ، جيم ميم راء جيم، حاجه تانيه خالص، شيء لم تسمع عنه بحياتك، وغالبا لم تتخيل وجوده، أنظر....
مد يده في جيب سرواله وهو يتلفت حوله بقلق، اخرج قطعة ورق صغيرة مدعوكه، وبسطها بيننا، كانت تبدو مقتطعة من ركن ورقة أكبر، تحتوي رسما لكتاب مفتوح فوقه قلما حبر يتماس سنيهما نحو الأعلى صانعين مثلثا ناقص ضلعا، وجملة غريبة مكتوبة فوقهما قرأتها بصعوبة ( هي اورلا نمز هنا)، كان ينظر إلى بنظرة نشوة ورعب من يشارك شخصا للمرة الأولى في سر رهيب.
هذا هو شعارهم، هذه الورقة مقتطعة من احد وثائقهم الأصلية، هل رأيت هذا الشعار من قبل؟
الحقيقة ﻷ، وهذه الجملة، (هي اورلا نمز هنا) ما معناها؟ وبأي لغه؟ فارسي؟
أطبقت أصابعه على الورقة وأعادها لجيبه بحرص
أستمع إلى فسأحكي الكثير ولا وقت لدي، كل دقيقة أقضيها معك أتعرض لخطر مميت، أنا مطارد منذ عشر سنوان، عشر سنوات، اجمع الأدلة والضم القرائن، أتحسس الإشارات والعلامات، أتسقط الكلمات وأتصيد هفوات الألسن والأقلام وما أندرها، عشر سنوات والصورة تتضح أمامي يوما بعد يوم، والقصة تكتمل أمامي مع كل دليل جديد، رمى سيجارته المنتهية، واشعل سيجارة أخري، كانت أصابعه ترتعش بوضوح، ويعتري جبينه انقباضات متتالية كأنما يعاني من نوبات الم متكرره
سأبدأ معك من البداية، هل تذكر سلاسل الروايات التي كان يكتبها نبيل فاروق منذ منتصف الثمانينيات؟ تلك الروايات العديدة السخيفة الحبكة التافهة اللغة؟ رجل المستحيل وأشباهها؟
نعم أذكرها طبعا وإن لم اكن من قرائها في صغري
ألم يخطر على بالك أبدا من أين يأتي كل هذا الطوفان من الغثاثة؟ من الذي يدعمها وينشرها ويعمل على تسييدها العقل الجمعي لجيل كامل من اليافعين؟ هي وروايات عبير ؟ألم تتساءل أبدا من وقف خلف احمد خالد توفيق ؟ ولماذا تتم (بروزته) كمفكر وعراب لجيل كامل؟ من الذي انتج أسطورة الأسواني ودفع برواياته الركيكة لمقدمة الأبداع الروائي؟ ليعلنوه فيلسوفا ومفكرا، ثم يسقطوه ويأتون بدلا منه بصاحب رواية (فركيكو)؟
بلع ريقه مزدردا إياه بأخر ما تبقى من كوب القهوة، صمت بينما كان القهوجي يغير حجر الشيشة، وأشعل سيجارة أخري من ولعة السيجارة السابقة.
أسمح لي حتى أن أعود لزمن أبعد، لماذا اعتزل عادل كامل كتابة الرواية فجأة؟لماذا مات أمل دنقل بالسرطان؟ من أصاب نجيب سرور بالجنون حتى مات؟ كيف أصاب محمد حافظ رجب بالمرض النفسي وتوقف عن الكتابة؟من قتل يوسف السباعي ولماذا؟وأي خبل أصاب علي سالم وحوله لمطبع صهيوني وقضى على مكانته ككاتب مسرحي؟
هل لديك إجابات؟
هززت رأسي ب.. لا، لم ارد التحدث ، كان يتكلم بحماس ولهاث، بدا مستلبا كأنما روحا تتلبسه، وهشا حتى خفت لو انني نطقت أن يتحطم أمامي كتمثال مشروخ من الخزف

أكتر من كده، من وراء كل تلك المكتبات الفاخرة الديكور التي ظهرت مؤخرا برءوس أموال بالملايين؟لماذا تدعم شركة رأسمالية عملاقه دار نشر معينه وتضخ في عروقها المليارات؟ ذلك اليساري الطويل النحيل بدار نشره ذات الاسم الفرعوني، من خلفه؟ من أتى بالتمويل؟ لماذا هي تتخصص في أصدار نوع محدد من الادب؟ جائزة البوكر العربيه ، من خلفها؟ لماذا ظهرت؟ وأي هدف من ورائها؟ صديقك الأديب النوبي، حين كان يكتب المسرح لم يهتم به أحد، وحين غير بوصلته الإبداعية انهالت عليه الجوائز والمنح، لماذا؟

كان لهائه قد وصل لحد أن صوته تحول لفحيح هامس، قطع تدفقه نوبة سعال عنيفه، مسح جبهته العرقة بكمه، أشعل سيجارة جديده، ورفع في وجهي أصبعه: هل سألت نفسك كل تلك الأسئلة؟

كنت غارقا في محاولة فهم ما يحاول الوصول إليه، كانت تساؤلات كتلك تخطر على بالي من وقت لأخر، لكنني لم أعرها كثير أنتباه، ولم أضعها كلها أمامي لأنني ببساطه لا أجد ما يربط بينها، لكن الأن، وهو يعرضها، بدأت أشعر بشعور غامض غير مريح، كأنك بغرفة مظلمة، تشعر بوجود شخص في الغرفة، لكنك لا تراه ولا تسمعه، فقط تشعر به، فترهف كل حواسك محاولا أن تتلمس أي أشارة لوجود، أو دليل على أن شخصا موجودا فعلا.
لم ينتظر إجابتي، ولم اكن مستعدا لتقديم أجابه، كنت أريد أن أرى الهدف مما يتحدث عنه، الحقيقة، بدا الموضوع مسليا ومثيرا للاهتمام
أسمعني يا أستاذ ياسر، الحقيقة أننا لم نكن مقطوعي الصلة طوال السنوات الماضية، رغم حياة التشرد والاختفاء التي عشتها طوال تلك السنوات، ومحاولاتي الحثيثة بلا طائل للخروج من مصر هربا بحياتي إلا أنني كنت أتابع أخبارك، فلا أنسي انك أول من شجعني على نشر عملي الأول، ولولا نشره ما كنت عرفت ما اعرفه الآن، وقعت على مدونتك بالصدفة في 2007 وكنت أتابعها دائما، بحثت عنك على الفايس بوك وكنت أتابع كتاباتك،منذ أسابيع كتبت أستايتوس على الفايس تتساءل فيه متى سمعنا اخر مرة عن شخص كتب مسرحيه أو نشر مسرحيه؟ ولماذا توقف الأدباء عن كتابة المسرحيات؟ أدركت وقتها انك ربما تشعر بما اشعر به، وإن لم تدرك أبعاده، هل تذكر فيلم (ماتريكس)؟ اعلم انك مغرم بهذا الفيلم، كان (نيو) يشعر بوجود الماتريكس، يشعر بأن بالعالم خطب ما وإن لم يعلم ما هو، لذلك قررت الاتصال بك، قررت أن أشاركك الأمانة التي احملها، خوفا من أن يستطيعون الوصول إلى وتضيع الحقيقة التي أعرفها مرة أخرى.
ابتسمت وأنا أتذكر مشهد الفيلم، إذا انت (مورفيوس) يا سعيد يا عثمان؟ وستعرض علي الاختيار ما بين الحبتين الزرقاء والحمراء؟: فاكر طبعا يا سعيد، كمل يا مورفيوس، وابتسمت مشجعا
أنحنى على الطاولة حتى كادت ذقنه تلامس المفرش المتسخ الكالح باسطا يديه أمامه متحفزا كأنما على وشك القفز:
ما اعرفه انه في وقت ما من أواخر الثلاثينيات أجتمع نفر من الكتاب الشباب الجدد في منزل محمد حسين هيكل، مؤلف رواية زينب، كان اجتماعا خاصا جدا، وشبه سري، لم يذكره أيا منهم أبدا طوال تاريخهم، رغم أن كلهم أصبحوا أعلاما أدبية مشهورة فيما سيلي ذلك من سنوات، كان اجتماعا حصريا مغلقا، بين مجموعة من الأدباء الشبان كما سبق وذكرت، كان ما يجمع بينهم جميعا أنهم يكتبون الرواية، ويحاولون أن يؤسسوا لهذا الفن الأدبي الجديد وقتها موطىء قدم في مصر والمنطقة العربية ككل، في وقت كان اساطين الأدب شعراء في مجملهم، وكان الفن الأدبي الأكثر سيطرة شعبيا هو المسرح، في ذلك الاجتماع السري أسسوا ما أسموه وقتها : أتحاد الكتاب للترقي بالرواية، وحددوا أهدافها في نشر فن الرواية وتدعيمه وجوده، وان يقصر أعضائها أنتاجهم على الرواية فقط، فلا يكتبون الشعر او المسرح، وإن كان ولابد فلا يتجاوزون القصة القصيرة بأعتبارها بنتا للرواية، وان يتخذوا كافة الطرق والوسائل لتدعيم سيطرة الرواية على الأدب العربي دون منازع، وسيطرة الروائيين على العقل العربي دون منافس.
أشعل سيجارة وقال مستطردا: أعلم انك ترفض مفهوم (العربي) و(العروبة) وانا شخصيا لا أراه ذو قيمه، قصدت عقل المتحدثين والقارئين بالعربية طبعا
هززت رأسي موافقا له، لم أجد سببا لقطع سرده، كنت مشغولا أولا بالسيطرة على الام تقلصات قولوني المتمرد- عليه اللعنه- وثانيا على هضم إثارة القصة التي يحكيها.
طلب كوبا اخر من القهوة (الكراميلا) وبقي صامتا حتى يأتيه القهوجي بها لكي لا يقطع حديثه، أخذ رشفه كبيرة من القهوه، ولعق شفتيه مرطبا إياهما قبل أن يكمل حديثه:
أول من خرج على عهود جماعتهم كان عادل كامل فبعد ان كتب روايتي ملك من شعاع ومليم الأكبر، خان العهد وكتب مسرحية( ويك عنتر)، اعتبروه خائنا، هددوه بتلفيق فضائح أخلاقيه، بل وهددوه بالقتل لو لن يعود عن كتابة المسرح، خاف الرجل فأثر هجر الأدب كله واعتزل، كان أول ضحاياهم وأنتصاراتهم، بقى الاتحاد يعمل بهدوء في تدعيم سيطرة الرواية على الأدب المكتوب بالعربية، وينتشر وسط المثقفين والمتعلمين، ويرسخ وجوده وسط كل قطاعات المجتمع، إلا ان وجودهم شهد نقلة كبيره بعد يوليو 52، خاصة وان احد أعضائهم من الجيل الثاني كان أحد الضباط المرموقين المقربين من الضباط الأحرار وإن لم يكن منهم، تخيل أعضاء اتحاد الكتاب للترقي للرواية أن الزمن زمنهم بلا منازع، نظام جديد يمكنهم ان يصولوا تحت ظله ويجولوا ويعلنوا سيطرة الرواية بلا منازع، فرموا بثقلهم خلف الظباط الشبان واعلنوا دعمهم غير المشروط لانقلابهم، إلا أن الزمن لم يكن زمنهم، فقد أصابتهم الصدمة أعتراف عبد الناصر بتأثير رواية عودة الروح عليه وهم من كانوا يعدون توفيق الحكيم مسرحيا، ولم يثقوا أبدا في روائيته، وصياغة يوسف إدريس لأحد كتب السادات وهو أديب أخز كان محسوبا على المسرحيين، كان زمن المسرحية والشعر، ارعبهم ألفريد فرج، وأصابهم نعمان عاشور بالذعر، حطمت معنوياتهم مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس، اعتبروا نجيب سرور الشيطان الأكبر، وكرهوا بروز نجم شعراء كأمل دنقل والصلاحين عبد الصبور وجاهين، أسقط في أيديهم، وعرفوا ان الرواية في خطر، هنا كان اجتماعهم الثاني، الجيل المؤسس والجيل الستيني الجديد، انعقد في سرية أكبر، في عوامة بنيل القاهرة، ناقشوا في هذا الاجتماع الوضع القائم، وأعلنوا حل الاتحاد وتأسيس تنظيم أكثر قوة وسرية وعنفا : الجمعية المصرية للروائيين الجدد : جمرج، أقسم أعضائها على القلم والخنجر أن يحموا الرواية بأي شكل ويعملوا على نشرها وسيطرتها بأي طريقه، حضر هذا الاجتماع أديب من (شرق المتوسط) كان من بين أوائل عناصرهم خارج مصر، وبدخول روائيين شرق المتوسط في الجمعيه تدفقت أموال طائله عليها زادت من نفوذها وقوتها.
توقف سعيد عثمان عن الكلام، وقد اعترته نوبة سعال جديده أسلمته لنوبة لهاث، استرخى في كرسيه كأنما يستريح من ماراثون طويل، أشرت للقهوجي بأحضار (حجر) رابع مخالف عادتي الراسخة في ألا يتجاوز ما أدخنة بالجلسة الواحدة ثلاثة حجاره.
لكن ما الذي يدفع الخليجيين لدعم جمعية مصرية سريه للرواية يا سعيد؟
نظر إلي مشفقا: أتعجب ان يصدر مثل هذا السؤال عن من هو مثلك يا أستاذ ياسر، أستعرض كم مسرحيا وشاعرا كان ميالا أو مرتبطا باليسار، أخذ يعد على اصابعه: الفريد فرج، يوسف إدريس، فتحيه العسال، نعمان عاشور، نجيب سرور، حتى عبد الرحمن الشرقاوي كانت إسلاميته مخلوطة بتقدمية ويسارية عميقه، لكن الروائيين كانوا في أغلبهم يمينيين او محافظين الهوى، ألا ترى أن الاعتقال والسجن كان غالبا من نصيب المسرحيين، بينما لم يمس الروائيين إلا نادرا؟

استعرضت في ذهني بسرعه ما أذكره من تاريخ القمع الحكومي للأدباء، ولم أجد حجة يمكنني بها أن أهاجم حجته القوية
الحقيقة يا سعيد اعتقد انك على حق، كيف لم انتبه لذلك من قبل؟
أستدار بكامله نحوي وقد عاودته نوبة الحماس المحمومة: هذه هي المصيبة يا أستاذ، هذه هي المصيبة، الحقائق والأدلة أمام الجميع، لكن لا احد يبدو قادرا على رؤيتها، هم ماهرون جدا في أخفاء وجودهم، المهم، الجمعية بدأت فيما ترسيخ وجود الروائيين بالأدب العربي انتظارا للحظة التي يطيحون فيها بأعدائهم، بدئوا بتحريك عميلهم وسط مجتمع الضباط، عميلهم الضابط/الأديب لو الأديب/الضابط ، بدأ بإقناع عبد الناصر أن الشيء المسمى (في سبيل الحرية) الذي كتبه في شبابه المبكر هي روايه وتستحق الإكمال والنشر، وهكذا ضمنوا ولاء أقوى رجل بمصر لقضيتهم، وعبره بدئوا بالتغلغل في كل مفاصل الدولة، وتجنيد المسئولين وكبار الشخصيات، حتى دون أن يعرف هؤلاء من الذي جندهم أو لماذا، بصعود أنور السادات للسلطه وعداوته الظاهرة لليسار الذي كما ذكرت كان مليئا بالمسرحيين والشعراء،هنا بدأت (جمرج) في عصر الإرهاب الروائي الأول: كانوا قد بدئوا بشن هجومهم من الستينيات على نجيب سرور بتجنيدهم وزير ثقافة ثورة يوليو لتحطيمه، ثم اجهزوا عليه بحقنه على فترات متباعدة بعقار خاص حصلوا عليه من المخابرات الأمريكية أصابه بالاكتئاب والمرض النفسي حتى مات، وهو نفس العقار الذي استعملوه على صلاح جاهين وقتلوه مكتئبا، أما أمل دنقل فقد سربوا مادة مشعة لسجائره حتى أصابوه بالسرطان الذي قتله.
ماده مشعه يا سعيد؟
نعم يا أستاذنا مادة مشعه، حصلوا عليها من الاتحاد السوفيتي عبر أتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي كان احد واجهاتهم العديدة، يوسف ادريس بكل جبروته وعنفه هددوه بفضح مغامراته العاطفية مع ممثلة شهيره كانت ناشئة مراهقه حين عرفها، فخاف وتوقف عن كتابة المسرح مكتفيا بالقصص القصيرة، اضطروا الفريد فرج للهرب للجزائر خوفا على حياته.


أستنى بس يا سعيد، مش معقول
إلا ان سعيد كان منطلقا في حماسته المحمومة، ولم يكن من الممكن إيقافه: ﻷ معقول، وأكثر، انت لا تتخيل مدى قسوتهم، حين كتب محمد حافظ رجب مقاله الشهير بالستينيات : نحن جيل بلا أساتذة، معترضا على سيطرتهم المحكمة على مسار الكتابة الروائية، لم يكتفوا بحصاره أدبيا، بل استعملوا نفس العقال ذو التأثير النفسي عليه حتى دمروه، واكثر من ذلك
أقترب بوجهه من وجهي حتى غمرتني رائحة السجائر والعرق: أتعرف لماذا قتل الضابط الروائي الرومانسي بقبرص؟ هم من قتلوه، كنت احدق مندهشا غير مصدق بعيني سعيد المحمومتين بشيء يشبه الجنون، هز رأسه مؤمنا، نعم هم من قتلوه، كان قد أستشرف مدى خطورتهم وسيطرتهم وحاول الانفصال عنهم، فقتلوه، استأجروا من دبر أغتياله ليتخلصوا منه ويدفنوه بسره، هكذا هم يا أستاذ، بلا رحمه، بلا تردد
إلا ان تلك لم تكن نهاية مؤامرتهم الكبيرة، بل البداية فقط، فبالخلاص من ألد أعدائهم، بدئوا في خطتهم لتسييد الرواية بشكل نهائي، فجلبوا الأموال الخليجية لتمويل المسرح الخاص، مدمرين الكتابة المسرحية ومحولين إياها لغث تافه يقدم فيما يشبه الملاهي الليلية، لئلا يتجرأ أحد على كتابة مسرح حقيقي او جاد، وبنفوذهم في وزارة الثقافة دمروا المسرح القومي ومسرح الطليعة، وزرعوا فاروق حسني وزيرا لكي يطلق مهرجان المسرح التجريبي، ليؤسس مفهوم المسرح بلا نص، هكذا قضوا على المسرح كفن أدبي، ثم دفعوا بنبيل فاروق ليسيطر على العقول الشابة بما كان يهرف به مما سموه (روايات)، اما التسعينيين وقد كان أغلبهم شعراء فما زلت حتى الآن أجمع أطراف المؤامرة التي حاكوها ضدهم فدفعوهم جميعا للصمت والموت الأدبي، وتلك واحدة من الأسئلة التي لم تتوقف يا أستاذنا عن طرحها: ما الذي حدث للتسعينيين ولماذا توقفوا فجأة واندثروا؟
لقد قضوا عليهم، وفي الفراغ الذي حدث بأختفائهم ، كان اليساري النحيل الطويل مستعدا للدفع بدار نشره ذات الاسم الفرعوني، التي جمعت المدونين مطلقة حقبة كاملة من الكتابة الأدبية المسطحة الجوفاء تحت أسم روايات، القضية بالنسبة لهم لم تعد مجرد تسييد الرواية، فمع الوقت تضخمت (جمرج) ولم تعد مجرد جمعية للروائيين، أصبحت متورطة في أجهزة الدولة، وعلاقات دولية واسعه، وارتباطات عميقة بالشركات العالمية وارتباطات أعمق بالأجهزة الأمنية والسيادية وأدوات الحكم، أصبحت مهتمة بالحفاظ على النظام الذي ترتبط به وتنمو في ظله وتندمج مع أجهزته، وبرحيل الأجيال المؤسسة الأولى الذين كانوا مبدعين أدبيين حقيقيين حل محلهم جماعة من الأرزقيه و(السبوبجيه) بقشور ثقافة ومواهب ضحلة لا يتجاوز عمقها عقلة الإصبع، القضية أصبحت السيطرة على سوق الأدب نفسه، ألا يكتب احد غير ما نكتب، ألا يخرج احد عن المستوى المطروح من الفجاجة وضعف الإبداع والموهبة، أصبحت (جمرج) أداة ضخمه هدفها عزل كل مبدع حقيقي وتدميره وحصاره والقضاء عليه، أصبحت جرج هي من تضع المواصفات القياسية للرواية وتحرص على عدم الخروج عنها، بداية من دار النشر ذات الاسم الفرعوني التي حولت المدونيين لروائيين، ودور النشر التي تتكاثر كالفطر مكرسة نفسها لنشر الروايات الجديدة، وشبكات المكتبات الفاخرة التي لا تفعل سوى الترويج لتلك الروايات.

سكت سعيد فجأة، بدا وكأن الإجهاد قد حطمه، كأنما ذكر كل ما قاله قد أستنزف طاقته، انحنى ساندا كوعيه على ساقيه مطرقا للأرض: الموضوع كبير يا أستاذنا، كبير قوي، من أول طبيب الأسنان اللي برواية مسروقه صنعوا منه روائيا كبيرا وفيلسوفا لثورة يناير مرورا بدار النشر الفرعونية الاسم ودورها الغريب في السيطرة على التحرير، وصولا لفوتوغرافي مبارك الذي صنعوا منه الأديب الأول بمصر، شبكة هائله من المترجمين والصحفيين والناشرين والمكتبات والمؤسسات، هدفها نشر نوع بعينه من الرواية، حتى الشعر قتلوه، كما ذكرت انت مره على الفايس بوك: الشعر المصري مات وشاهدا قبره الجخ وقطامش، رفع رأسه ثائرا وعصر ذراعي وعيناه تتقدان غضبا: بقى بالذمه دول شعراء؟!! حتى الشعر حاصروه ورسموا له مسارا يقوده للموت النهائي والفناء، أصبح كل شخص تقريبا صاحب رواية منشوره، أصبح من يمتلكون رواية منشوره اكثر ممن يمتلكون سيارات، عمل فج سخيف تلو الأخر، ويجدون من ينشر، ومن يترجم ومن يدبج مقالات التقريظ والمديح، مؤامرة هائله يا أستاذنا، مؤامرة...
كان علي أن أضع مبسم الشيشة وأنهض لأجلس سعيد بعد أن وقف منحنيا على الطاولة وهو يرفع صوته وجسده كله يرتعد بالغضب والغيظ.
أهدأ يا سعيد، أهدأ ، أجلس، لقد أثرت انتباه الزبائن القليلين الذين أتوا للمقهى.
بدا كأنني سكبت دولا من الماء البارد على رأسه، أظلمت عيناه مرة أخرى، وانهد في كرسيه مسحوقا، يهز رأسه في يأس وبصوت منتحب ولول بهمس: لقد انتصروا فعلا يا أستاذ ياسر، انتصروا فعلا، أتعرف ما معنى الجملة التي على شعارهم؟
سحب الورقة من جيبه وبسطها أمامي ثانية، قرأت بصوت هامس: هي اور لا نمز هنا
ليس لها معنى يا سعيد، بأي لغة هي؟
أبتسم أبتسامة تقطر مرارة وقال : أقرأها بالعكس
فعلت، فإذا الجملة تظهر أمامي واضحة جليه: انه زمن الرواية الآن
حدق في عيني وقد أدرك انني فهمت ما يقصد، انه زمن الرواية الآن، الشعار الذي وضعه المؤسسون في ثلاثينيات القرن الماضي، لحظتها أدركت ما يقصد سعيد عثمان بأنهم قد انتصروا فعلا.
لبثنا نحدق أحدنا في عيني الأخر لثوان منبهرين بالكشف الذي نتشاركه.
نهض سعيد ومد لي يده مصافحا: اﻷن انت تعلم ما أعلمه، تعلم ما عفته عبر عشر سنوات، تعلم لماذا أنا خائف ومطارد وحياتي مهدده، أسف أنني أشركتك معي في هذا السر المظلم، لكني لا امتلك فقط الحكايات، لدي وثائق وإثباتات مكتوبه، رسائل ومحاضر جلسات، نجحت في تهريبها خارج مصر وقت وقت الثورة، هي لدى صديق خارج مصر، اتفقت معه أنني لو اختفيت ولم أتواصل معه عبر الأنترنت أن يرسل لك نسخة رقمية منها، أنا اتق فيك بك واعرف انك لن تتردد في فضحهم، أو افعل بها ما شئت، لكن تذكر أن أنسانا قد ضحى بحياته للحصول عليها، أنا سأنصرف الآن وسأحاول الاتصال بك مرة أخرى

سحب يده بسرعه واستدار منصرفا، أمسكت كتفه: أنتظر يا سعيد، كيف أمكنك أن تعرف كل هذا عنهم؟
أستدار بجانب وجهه، كانت عيناه مختنقتان بالدموع : كنت واحدا منهم يا أستاذ ياسر، أم كيف تظن أن ضعيف الموهبة مثلي يمكنه أن يصدر ثلاث روايات متتاليه؟ كنت واحدا منهم، تملص من يدي وانصرف مسرعا متلفتا، لم اره بعدها ولم يتصل بي أبدا.

الاثنين، 6 أكتوبر 2014

المزايدة على المزايدة



تأسيس: في عتمة الديماجوجيا التي نتعامل بها مع القضية الفلسطينية، من الصعب أن تفرق ما بين المواقف القومية الأصل وما بين المواقف الإسلامية الأصل، كما يصعب في عكارة (الترعة) أن تفرق ما بين البطن الاخضر للبلطي البلدي والبطن الأحمر للبلطي المستورد.


 من تعس الحظ في هذا الشرق الأوسط أن تجد نفسك في موقف الدفاع عن اليسار السلطوي العربي، رغم أنك قضيت حياتك كلها تقريبا تناوئه وتعارضه- من على يساره، وليس من على يمينه- إلا أن الموقف ليس دفاعا عن ذلك اليسار، بل دفاع عن (الحقيقة) التي تغرق في عكارة مهندسة عمدا ومحكمة الصنع على يد كاتب يمتلك أدواته كالأستاذ وائل قنديل رئيس تحرير جريدة العربي الجديد، والمنشور مقاله في عدد الاثنين 6 أكتوبر، عن زيارة الصحفية الإسرائيلية (عميره هاس) إلى جامعة بيرزيت وحادثة طردها منها. أولا يبدأ الكاتب بمهاجمة اليسار العربي وموقفه من القضية الفلسطينية، وهو الشىء العجيب من كاتب ذو جذور ليبرالية- لا أعرف انتمائه الأيدولوجي الحالي- فلا يمكن في الحقيقة المزايدة على موقف اليسار السلطوي العربي– الماركسيين والناصريين تجاوزا- من القضية الفلسطينية، فقد شغلت هذه القضية دورا محوريا مركزيا دائما في الحراك السياسي اليساري يفوق بمراحل حتى القضية الطبقية- التي هي القضية الأساسية ﻷي يسار- فقد كانت دائما هي المقدمة والركيزة والمحور. -دعك من تلميحات الخبثاء أن الدافع لذلك هو الشيكات المتخمة التي كانت تمنحها منظمة التحرير كرواتب شهرية-، بل إن انتماء اليسار العربي وولعه بالقضية الفلسطينية يسبق الولع الإسلامي بها– دعك من تلميحات الخبثاء أن الإسلاميين قزموا القضية الفلسطينية لقضية غزاوية باعتبارهم حماسستان الامتداد الأيدولوجي لهم- الحقيقة أن الفصيلين رغم ما بينهما من صراع وعراك تاريخي يتحدان ويتشابكان في موقفهما من القضية الفلسطينية لدرجة مدهشة، بنفس المقدار من الحماسة والديماجوجية والتشدد، وعليه فإن قضية المزايدة على موقف اليسار من فلسطين هي قضية ليست فقط خاسرة، بل ومضحكة.

 ومن اليسار العربي إلى اليسار الاسرائيلي الذي حقيقة لا أثق فيه وأجده شديد التقارب مع الصهيونية كأيدولوجية (قومية/دينية)، بداية من، حزب العمل يمينا وصولا للحزب الشيوعي الاسرائيلي يسارا. لكن اليسار السلطوي الاسرائيلي ليس الوحيد بالمنطقة المصاب بالمرض (القومي) فذلك الوباء يتفشى بقوة وسط اليسار السلطوي بالشرق الأوسط كله، وهو عموما لا يراه مرضا، بل يعتبره جزء أصيل من قناعاته وتكوينه،
 لكننا لن نغرق في مقال تشريحي عن اليسار الشرق أوسطي وأمراضه التاريخية.

يقول الأستاذ وائل قنديل في مقاله إن طلاب جامعة بير زيت هم من طردوا (عميره هاس) من الجامعة، وأنا أسأل بوضوح: هل طردها طلاب جامعة بير زيت أم طردها تحديدا طلاب الكتلة الإسلامية في جامعة بير زيت؟ لنحدد أن الموقف هو موقف الإسلاميين أيدولوجيا وليس موقف (الطلاب) عامة، خاصة أن الجامعة أصدرت بيان اعتذار عما أسمته فعلا فرديا. والحقيقة أن من طردوا عميره تعللوا بقاعدة جامعية تمنع استضافة كل من يحمل الجنسية الإسرائيلية، هكذا؟ وماذا عن زيارات سابقة لعميره للجامعة نفسها؟ وماذا عن زيارات محمود درويش (عضو الحزب الشيوعي الاسرائيلي) وسميح القاسم للجامعة وكلاهما حمل الجنسية الاسرائيلية وقت الزيارة؟ أم أن المشكلة ليست في الاسرائيلي، بل في (اليهودي)؟ لا أظن ذلك.

 وهنا نعود للقنبلة التي يلقيها الأستاذ وائل قنديل في مقاله...
 “ولو كانت الصحافية مع الحق الفلسطيني فعلاً، لما تباطأت لحظة في التخلّص من "إسرائيليتها"، كما فعل يهود آخرون انحازوا لإنسانيتهم وأقرّوا بالحق، مثل الحاخام الذي أحرق جواز سفره الإسرائيلي أمام عدسات التلفزيون في تظاهرات منددة بالهمجية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة ٢٠٠٩، وكما فعلت أيضاً المحامية اليهودية فيليتسيا لانجر، التي لم تكتفِ بأن أخذت على عاتقها الدفاع عن الفلسطينيين في غزة والضفة، بل تخلّصت من جواز سفرها الإسرائيلي، بعد الانتفاضة الأولى، وقررت العيش في أوروبا بجنسية أخرى".

 قنبلة فعلا، ومنطق يلقى في وجوهنا دائما حين نتحدث عن نضال الاسرائيليين ضد الصهيونية والتفرقة العنصرية، كش ملك، فكيف يمكنك أن ترفض هذا المنطق، ليرحلوا لو كانوا ضد الصهيونية.
 السؤال هو: هل رحيل بضع مئات أو ألاف من الإسرائيليين المناهضين للصهيونية عن إسرائيل سيفيد القضية الفلسطينية؟ هل تظنون أنهم يعيشون في رفاهية النضال مثلا؟ ما الذي يدفع شباب حركة (ضد السور) الأناركية بإسرائيل للنضال ضد سور العزل العنصري حتى يزج بهم جميعا في السجن لمدد تصل إلى 12 عاما؟ ما الذي سيكسبه مناضل في السبعين من عمره مثل (ايلان شاليف) بتنظيم مسيرات ووقفات احتجاجية أسبوعية ضد جدار الفصل العنصري وسياسات الدولة الصهيونية ليتم إغراقه أسبوعيا بالغاز المسيل للدموع وتهديده بالاعتداء عليه جسديا؟ السؤال هو: أين علينا أن نقاوم ونحارب الصهيونية؟ في وجهها وعلى الأرض التي تنشط عليها وجها لوجه، أم في أمان غرفنا المكيفة خارج مجال سيطرتها وبعيدا عن أخطارها؟
 حتى لو رحل هؤلاء المناضلون ضد الصهيونية، فمن سيبقى؟ سيبقى الصهاينة، والمتطرفين والمؤمنين بحق اسرائيل في الأرض وبحقها في قتل الفلسطينيين، الذين سيكونون وقتها قد حرموا حتى من الحليف المتواضع والحماية الضئيلة التي يوفرها لهم ذلك النفر من الاسرائيليين المعادين للصهيونية، من سيكون لهم وقتها؟ المناضلين من الغرف المكيفة؟ ام صواريخ حماس التي لن تحرث حقلا ولن تجمع ثمرا؟
 نصل هنا لحماس، حماس التي لم يذكرها الأستاذ وائل قنديل في مقاله نهائيا، رغم أنه يمكن رؤية شبحها وتحسس بصمتها في كل سطر من مقاله، نعود هنا لماذا أنا لا أظن أن كون (عميره هاس) يهودية هو السبب الرئيس في طردها من جامعة بيرزيت الحقيقة المخفية بمهارة أن (عميره هاس) كما تنتقد بعنف السياسة الصهيونية العنصرية اسرائيل وهي المقيمة أغلب الوقت بالمناطق الفلسطينية، قد ارتكبت الخطيئة العظمى، وبصقت في البئر المقدسة متوضأة بالحليب، فتجرأت على كتابة مقال توجه فيه لحماس أسئلة من قبيل :

حسب الاستطلاع، فان 43 في المئة من سكان القطاع الذين تحت حكمكم يريدون الهجرة (20 في المئة يريدون الهجرة من الضفة الغربية).

 هل تتنكرون للمسؤولية عن هذا المعدل العالي من المهاجرين المحتملين؟ مكانتكم قبل الحرب كانت في أسفل الدرك. فهل هذا هو انتصاركم– في أن التأييد لكم ارتفع؟

 يمكن قراءة كامل المقال بكل أسئلته الحارقة على موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ومقال أقدم ينتقد حماس كذلك
  ها هو الماء يصفو، لنرى ما يربض في القاع، عميره تجرأت على خدش قداسة وبهاء وروعة وسماوية النصر الحمساوي الغزاوي الأخير بأسئلتها المتزندقة، الأسئلة التي لم يمنعها من طرحها الإرهاب الفكري واللفظي الذي يتسلط علينا نحن من نتحدث لسان العربية فكان جزائها أن طردها نفر من الطلبة الإسلاميين التوجه من جامعة بير زيت، ضاربين بعرض الحائط كل تاريخها في التصدي للصهيونية العنصرية ومن مساندة الحق الفلسطيني، رافعين شعار: ما بعد مسائلة حماس ذنب. عرفت يا أستاذ وائل قنديل عميره هاس انطردت من بير زيت ليه؟
وأنا عرفت انت كاتب مقال بتدافع فيه ليه عن طردها
ياسر عبد القوي.