الاثنين، 23 سبتمبر 2013

الانقلاب الذي لم يكن يجب أن يحدث


 المقال كتب للنشر مترجما للفرنسيه في مجلة البديل التحرري الاناركيه الفرنسيه.


يبدو أن الكتابة عن ما يحدث في مصر تصبح أصعب وأصعب كل مره، ومحاولة توقع مسار للأحداث أو تطور للعناصر المتفاعله شىء أقرب لتنبؤات السحره حول كراتهم البلوريه، فهذه ليست دولة عميقه، بل بئر مظلم بلا قرار مملوء بماء داكن ووحل أسود، تصطرع في أعماقه كائنات سياسيه منقرضه أو ممسوخه، ربما نسينا في خضم تطلعنا للضوء القادم من بعيد أنها ما تزال تعيش وسطنا وتحت أقدامنا، لأننا في الحقيقه عالم ثالث ودولة ناميه وجمهورية موز أخرى تقع شمال شرق افريقيا،
يشبه الأمر مشهدا من فيلم خيال علمي حين تنظر لحدث ما في الماضي القريب ، وتقول أنه ما كان يجب أن يحدث، بكل تحليل منطقي عقلاني ما كان يجب أن يحدث،
من كان يتوقع مظاهرات 30 يونيو والإنقلاب العسكري الذي لحقها؟
لا أحد
فمنذ أغسطس 2012 وقوى النظام المباركي تخوض كل شهرين تقريبا نفس المغامره بنفس الخطه التي يعلنونها بكل صراحة ووضوح: (لو نزلنا بأكبر عدد ممكن وبقينا في الشارع لأطول وقت ممكن وخلقنا أكبر قدر ممكن من الفوضى الضاغطه فإن الجيش سيكون مضطرا للإنقالب على مرسي وحكم الاخوان)، بل أن بعضهم كان يحدد عددا كحد أدنى ومدة زمنية لن يتحرك الجيش لاقل منهما، وكل مرة كانت تنتهي المغامرة بنفس النتيجه، مظاهرات، قليل من العنف، ثم اللاشىء، فالمؤسسة العسكريةلا تراهم ولا تسمعهم، وهي تحقق مكسبا سياسيا أو اقتصاديا جديدا بعد كل (نوبة) تظاهر من تلك النوبات الفلوليه
فلماذا أختلفت 30 يونيو؟
منذ يناير الماضي كانت جدران المباني بالميادين الرئيسيه تتغطى بأعلانات تقول: أنزل ساند جيشك، أنقذ مصر، وكانت توزع الألاف من تلك الإعلانات في لقاءات جماهيرية تدعو لها وتنظمها مجموعات نعلم أن مؤسسيها شديدي القرب من الأجهزه الأمنيه، وكانت تتعاون معها عدد من الأحزاب السياسيه الليبراليه في تلك اللقاءات، لكن الجيش لم يتحرك رغم ذلك، فلماذا نجحت حركة (تمرد) المجهولة الأصل والمدعومة أمنيا على حسب رصدنا لها- فيما فشلت فيه حركات أطول عمرا واكثر إحترافا؟
مبدئيا لا أعتقد أن عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحه كان يرغب فعلا في الإنقلاب
على نظام الإخوان، مبدئيا نه إسلامي الهوى والتوجه على حسب مقال مجلة foreign affairs
الأمريكيه بعددها الإلكتروني في 28 يوليو 2013 في تحليل لورقته البحثيه أثناء دراسته بكلية الحرب بالولايات المتحدة خلال عام 2006
وهو ما تكرر بعدد من المقالات التحليليه واللقاءات مع المشرفين على دراساته في نفس الفتره، وحتى القوى الإعلاميه لما يسمى (الفلول) كانت تقصفه لشهور بمدفعيتها الإعلامية الثقيله منذ تعيينه وزيرا للدفاع في أغسطس 2012 متهمة أياه بأنه أخواني الميول والهوى ، وأن بعض أقربائه شخصيات قيادية قديمة بالأخوان المسلمين، وحتى يناير الماضي كانت الهمسات والتلميحات أن الأمل في رئيس الأركان (صدقي صبحي) لقيادة ذلك الإنقلاب على مرسي وليس السيسي
، كما أن الجيش لم يكن يمتلك اي مصلحه في الإنقلاب، فهو يحصل على مكاسب أقتصادية وسياسيه لم يكن يحلم بها ايام مبارك حتى بسبب ضعف مرسي وهشاشة نظامه ورغبته في إسترضاء المؤسسه العسكريه بأي ثمن.

لكن قوى أخرى كانت تعمل لتجبر الجيش على الخروج عن صمته وتجاهله للتحريض على الإنقلاب رغم وصول امر لحملة تحرير توكيلات رسميه للفريق السيسي لإدارة شئون البلاد في مارس الماضي- نرصد هنا طريقة تفكير البرجوازيه المصريه: تحرير توكيلات حكوميه رسميه لتوكيل قائد الجيش بالقيام بإنقلاب عسكري- تلك القوى كانت الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية، والذي حسم أمره وقرر أنحيازه ضد الاخوان في الصراع المفتوح ما بينهم وبين النظام المباركي، فضربت البلاد موجة تلو اخرى من أزمات غير مبرره ، بداية من تعميق أزمة انابيب الغاز - الموروثة من مبارك- وصولا لنقص حاد في الوقود، وأنقطاع يومي متكرر للتيار الكهربائي- ملحوظه وزيري الكهرباء والبترول بحكومة مرسي بقيا في حكومة الإنقلاب-، بينما كانت المحاكم لا تكاد تعمل حتى تعود للإضراب بقيادة الجهاز القضائي المشتبك في صراع مفتوح مع الأخوان، بينما عانت البنية التحتيه في كافة المدن من أنهيار واضح بسبب إنعدام الصيانة تماما، وتلاشي الخدمات الحكوميه المحليه، كل ذلك خلق حالة قوية من الإحتقان المجتمعي وأبرز العجز الكامل لحكومة مرسي، بينما كان الإعلام المنحاز تماما للنظام المباركي يسلط الضوء بكل قوة على تلك الأزمات ويضرب بكل عنف مؤكدا ان نظام مرسي يقود البلاد للخراب والدمار لصالح أجندة سريه هدفها تدمير مصر لصالح التنظيم العالمي للأخوان المسلمين وحركة حماس الفلسطينيه، ووصل امر لحالة مرضيه من الهوس والهستيريا الإعلاميه وسط شلل شبه كامل لنظام مرسي ورئيس وزرائه المثير للسخريه هشام قنديل، كل ذلك كان يهىء المسرح لشىء ما يلوح في الأفق، شىء ما كانت قوى أخرى خفيه تضغط في أتجاهه.


"الجيش لو نزل مصر حترجع 40 سنه لورا"
ذلك تصريح لعبد الفتاح السيسي قاله في يونيو الماضي، ردا على المطالبات المستمره للجيش بالإنقلاب على مرسي، أنا شخصيا أصدق هذا التصريح، وأصدق ان السيسي لم يكن راغبا في الإنقلاب وأصدق أنه حين دفع بقوات الجيش لتأمين المنشأت الرسمية الرئيسيه قبل مظاهرات 30 يونيو كان الأمر بموافقة مرسي ولتأمين تلك المنشأت فعلا لا للتجهيز للإنقلاب، لكن الضغط كان أكبر من أن يستطيع السيسي تحمله، فحملة تمرد التي تمتعت بحشد لكل القوى السياسية خلفها ولتمويل ودعم واضحين من الفلول الذين لم يخجلوا من الظهور بصراحة يدا بيد مع القوى (الثوريه) حتى اليساريه- التروتسكيين مثلا- على منصات الدعوه لمظاهرات 30 يونيو ، تلك الحمله كانت قد أكتسبت زخما شعبيا قويا، والحالة الإحتفالية الكرنفالية للتظاهرات - التي تتم في حراسة الشرطة والجيش- مع الموسيقى وأضواء الليزر والألعاب النارية مثلت فرجة شعبيه شديدة الجاذبيه لمزيد من الأعداد للمشاركة في أمسيات كرنفاليه في أمسيات صيفيه معتدلة الطقس، في نفس الوقت كان تحدي مرسي الواضح والعنيد لإنذار السيسي أكثر مما تحتمل أعصاب المؤسسه العسكريه، فهي لم تعتد التحدي السياسي وتراجعها كان يعني هزيمة سياسية قويه وإنكسار لصورة الجيش الخارق القوه في نظر الشارع، ولابد أن الصراع ما بين الجنرالات كان قد بلغ أشده خلف الابواب المغلقه، وهو ما صرح به منذ أيام جنرال متقاعد يحترف التحليل السياسي على الفضائيات - سامح سيف اليزل- أن السيسي لو لم يستجب لمطالب حشود 30 يونيو لكان عرض القيادة العامة للتصدع والجيش للإنشقاق، وهكذا يبدو أن الضغط المتواصل لمدة عام قد أثمر وأخيرا تحرك الجيش بعد ثلاثة ايام من الاحتفالات الشعبيه وألاف قطع الالعاب الناريه وأزاح مرسي عن الحكم.


إلا ان الأنقلاب كان بداية القصه وليس نهايتها، فتنظيم الاخوان الذي كان كسمكة خارج الماء أثناء سيطرته على الحكومه، أصبح كسمكة عادت للماء مرة أخرى، فلم يتفكك أو ينهار- وهي حالة نادره في التنظيمات السياسيه المصريه المهترئة تنظيميا عادة- بل أستطاع تنظيم عدد من المسيرات التي لا يمكن إنكار ضخامتها وأسس لأعتصام ضخم راسخ في ميداني رابعه العدويه والنهضه، مستنفرا كل قوته وأنصاره، ومتبنيا كل تراث الاحتجاجات ضد المجلس العسكري السابق على مرسي- تلك الاحتجاجات التي وقف منها اخوان موقفا شديد العدوانيه- ومحولا نفسه لقوة جماهيريه ثورية المظهر تقاوم الإنقلاب العسكري وتدعو لعودة الشرعيه، ورغم كل الرهانات على أنهيار الإعتصام إلا انه صمد وبقي، طبعا لا يمكننا إنكار القوه التنظيميه للأخوان والتمويل المادي اللامحدود المتوفر لهم
، وهكذا واجهت الدوله المصريه الحديثه أكبر تحدي داخلي لها  من نوعه، كيان سياسي يتحداها في حركه أحتجاجيه جماهيريه، في أختبار غير مسبوق، ولنؤكد هنا ان الدولة بقيادتها العسكرية تواجه كيانا- الاخوان المسلمين- لا يتناقض معها لا طبقيا ولا في التوجه الاقتصادي أو السياسي، ولا يمثل أي تهديد مباشر أو غير مباشر لبنيتها الطبقيه والسلطويه، كل ما يريده هو جزء أكبر من كعكة السلطه لا الكعكة كلها، وطبقة من التدين المصطنع تستعملها أغلب الطبقة الوسطى المصريه كعادة يوميه.
أختارت الدوله ان تخوض الصراع بالحد اقصى من العدوانيه، فبدأت بتسليط التها الإعلاميه العملاقه- وإن كان أغلبها مملوك للقطاع الخاص- في حملة لا يمكن مقارنتها إلا بحملة جوبلز ضد اليهود في ألمانيا النازيه ضد الأخوان، وشمل ذلك حملة تشويه عنيفه ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وفي نفس الوقت أطلقت عقال الرموز الإعلامية لنظام مبارك لتشن هجوما إعلاميا مكشوفا على أنتفاضة 25 يناير معتبرة اياها (نكسه) وكارثه جاءت ما تسمى (ثورة 30 يونيو) لتصلح من خطيئتها وتعيد التوافق ما بين الشعب والجيش والشرطه
، أعقب ذلك الهجوم الإعلامي الساحق مجزرة فض اعتصام رابعه العدويه والذي تصل التقديرات بخسائره في ارواح حتى 2000 قتيل، في إبراز لقدرة الدوله المصريه على ممارسة أقصى درجات العنف ضد معارضيها، في أستعراض مباشر لوحشية ذراعها العسكري، والأن بعد شهرين من الأنقلاب، ما زال الجيش منتشر في الشوارع، وتدخل حتى الان لثلاث مرات لفض أعتصامات عماليه، والأخوان ما زالوا يخوضون أحتجاجاتهم الجماهيريه، والاقتصاد ينهار بسرعة مدهشه، لكن الألة الإعلاميه ما زالت تضخ مخدر الوطنيه والقوميه والجيش الذي يحمي الشعب من الإرهاب، إلى متى سيستمر مفعول المخدر الوطني؟ ليس كثيرا، هل سيصل الطرفين لأتفاق سياسي؟ لا أعتقد فالجيش قد أحرق كل جسور التفاوض الممكنه.
إلى أين تسير مصر؟
لحرب أهليه على الطريقه المصريه، بارده كسول ممله وطويله، وبينما ينهار اقتصاد بسرعه نتوقع قريبا ظهور أحتجاجات إجتماعيه يبدو أن الدولة قد منحتنا إشارة للكيفيه التي ستتصدى لها بها بالعنف، الذي أصبح الخبز اليومي للشارع الذي أصبحت حوادث إطلاق النار بالنسبه له فرجة شعبية جذابه.


ياسر عبد القوي
الحركه الاشتراكيه التحرريه- مصر.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق